حملت الجولة الثانية من التشريعيات المسبقة الفرنسية مفاجأة بتصدّر أقصى اليسار نتائجها متقدّما بذلك على معسكر الوسط بقيادة الرئيس الفرسي، إيمانويل ماكرون، ومتجاوزا اليمين المتطرف الذي تراجع إلى المركز الثالث بعد أن كان خلال الجولة الأولى على بعد خطوات معدودة من الحكم في فرنسا. خلافا لكل التوقعات بفوز اليمين المتطرف، حققت "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية، وهي ائتلاف من الأحزاب الاشتراكية واليسارية بما في ذلك حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتطرّف، المفاجأة بتصدرها نتائج الجولة الثانية من التشريعيات الفرنسية التي جرت أول أمس، لكن من دون حصولها على الأغلبية المطلقة التي تمكنها من التحرّك بأرحية في البرلمان. ورغم أن "التجمّع الوطني" اليميني المتطرّف يدخل هذه المرة بقوة إلى الجمعية الوطنية الجديدة، إلا أنه يبقى بعيدا عن السلطة مع تسجيله نتيجة مخيّبة لتطلعاته مقارنة مع ما سجله خلال الدورة الأولى. وأظهرت بيانات وزارة الداخلية الفرنسية الأولية التقريبية أن اليسار حصد 190 مقعد من أصل 570 مقعد، وتحالف "معا" وهو تحالف الرئيس ماكرون على 165، فيما فاز "التجمع الوطني" لماري لوبان ب 135، وهو ما يعني بأن أيا من الكتل الثلاث لن يتمكن من تشكيل حكومة أغلبية وأنها ستحتاج إلى الحصول على دعم الآخرين لتمرير أي تشريع. وهي نتيجة تقود إلى وضع "البرلمان المعلق" في حكومة النظام البرلماني، عندما لا يحقق أي من الأحزاب الرئيسية أو كتلة الأحزاب المتحالفة أغلبية مطلقة في المقاعد تتيح لأي منهم تشكيل الحكومة منفردا دون الحاجة إلى الدخول في تحالفات. وذكرت وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية بأن "فرنسا الحديثة لم تشهد أبدا طوال تاريخها برلمانا دون حزب مهيمن"، مشيرة إلى أن الانقسامات في باريس بشأن سياسات الضرائب والهجرة والشرق الأوسط تجعل بناء إجماع عبر الأحزاب للاتفاق على مواقف الحكومة والتشريعات "أمرا صعبا بشكل خاص". وعلى إثر ذلك طلب الرئيس ماكرون من رئيس الحكومة، غابريال عطال، بالبقاء في منصبه وفقا للدستور الذي ينص على أن الرئيس هو الذي يقرّر من سيكلفه بتشكيل الحكومة، لكن من سيختاره سيواجه تصويتا على الثقة في البرلمان، والذي سينعقد لمدة 15 يوما بدءا من تاريخ 18 جويلية الجاري، بما يعني أن ماكرون يحتاج إلى تسمية شخص مقبول لدى أغلبية المشرعين للقيام بهذه المهمة. ولذلك فهناك من استبعد تشكيل ائتلاف بتوجهات يسارية، مرجعين السبب إلى أن "فرنسا ليست معتادة على ذلك النوع من بناء التحالفات في مرحلة ما بعد الانتخابات" على عكس ما هو شائع في ديمقراطيات شمال أوروبا مثل ألمانيا وهولندا. ومع ذلك، قد يسعى ماكرون إلى اتفاق مع اليسار المعتدل لتشكيل حكومة مشتركة، لكن من التوقع أن تكون مثل هذه المفاوضات، إذا حدثت، "صعبة للغاية" بدليل استبعاد زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتشدد، جان لوك ميلانشون، تشكيل ائتلاف واسع من الأحزاب ذات التوجهات المختلفة، قائلا إنه من واجب ماكرون أن يدعو التحالف اليساري إلى الحكم. وفي معسكر الوسط، قال رئيس حزب ماكرون، ستيفان سيجورن، إنه مستعد للعمل مع الأحزاب الرئيسية في البلاد، لكنه استبعد إبرام أي اتفاق مع حزب ميلانشون. وفي انتظار أي من السيناريوهات التي سيؤول لها المشهد السياسي الفرنسي، أدخل فوز اليسار الطمأنينة في قلوب شرائح واسعة من المجتمع خاصة منهم المهاجرين الذين يبدو أنهم تنفسوا الصعداء بعد تراجع نفوذ اليمين المتطرف الذي كان يسعى لتضييق الخناق على هذه الفئة التي دفع الكثير من افرادها الحاصلين على الجنسية الفرنسية للتوجه الى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخابات حظيت باهتمام كبير داخل فرنسا وخارجها. ومن ضمن الإجراءات التي يعتمدها اليسار في برنامجه تسهيل الحصول على التأشيرات وتنظيم العمال والطلاب وإنشاء تصريح الإقامة لمدة عشر سنوات ومراجعة ميثاق اللجوء لضمان لجوء كريم للمهاجرين. من جهة أخرى، شكلت هذه الانتخابات ارتياح لدى عموم القادة الاوروبيين، حيث رحّب رئيس الحكومة الاسبانية، بيدرو سانشيز، باختيار فرنسا والمملكة المتحدة "رفض اليمين المتطرف والالتزام الصارم باليسار الاجتماعي". وبينما التزمت روما الصمت، أعربت الحكومة الديمقراطية الاشتراكية في المانيا عن "بعض الارتياح" بعد الانتخابات التشريعية في فرنسا. وهو على رأس ائتلاف واسع من الوسطيين والمؤيدين لأوروبا، أعلن رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، أنه "سعيد" لأن اليمين المتطرف الفرنسي خرج مهزوما نسبيا وتفوق عليه الكتل الأخرى، على الرغم من أنه أقوى من حيث عدد النواب. أما في موسكو، فقد قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، في تصريحات صحافية بأن الأفضل بالنسبة لروسيا هو انتصار القوى السياسية المستعدة لبذل الجهود لاستعادة علاقاتنا الثنائية.