أدخلت تسريبات موقع ويكليكس أمس كل عواصم العالم في أزمة دبلوماسية لم يسبق أن شهدتها بعد أن فضحت مضامينها ممارسات تمت في سرية تامة وعلى أعلى مستويات المسؤولية الدولية وفي كبريات العواصم من واشنطن إلى لندن وبكين مرورا بباريس ومدريد وروما. ولم تُستثن أيضا العواصم العربية التي وجد مسؤولوها أنفسهم في قلب الإعصار بعد كل الحقائق التي أصبحت في متناول العام والخاص. وكما كان متوقعا فد طغت الوثائق المسربة على كل الأحداث العالمية وجعلت الرأي العام الدولي ينتظر بشغف كبير مضمون هذه الوثائق لمعرفة ما يفكر فيه كبار العالم والمتحكمون في مصير شعوبه وطريقة تعاطيهم مع قضاياه الراهنة والماضية. والمؤكد أن هذا الانتظار لم يكن مخيبا أمام درجة الترقب التي أحاطت بمثل هذه التسريبات التي كانت في غاية الأهمية من حيث مضمونها والحقائق التي فضحتها، وكانت كافية لإثارة سخط مشترك في أوساط كل الحكومات التي تم ذكرها في هذه الوثائق. وكانت الولاياتالمتحدة من أكثر المتضررين على اعتبار أن الوثائق تخصها وسربت من قلب إدارتها وهيئاتها الدبلوماسية في الخارج وأكدت أن السفراء والدبلوماسيين الأمريكيين في كل العالم ما هم في الواقع سوى جواسيس ينقلون كل صغيرة وكبيرة عن مسؤولي الدول التي يعملون فيها. كما أن الاتفاقيات والمحادثات السرية للإدارة الأمريكية مع شركائها وحلفائها في العالم أصبحت في متناول آخر شخص يريد الاطلاع على كيفية إدارة الشؤون العالمية في أكبر دوائر صناعة القرار الأمريكية التي عادة ما تحدد على أساسها السياسة الدولية التي أفرزها نظام القطب الواحد في العالم. ولكن المصيبة الأكبر كانت بالنسبة لدول تتظاهر بمواقف موجهة للاستهلاك اليومي ولكنها في الواقع تفكر بطريقة مغايرة وتسعى لتحقيق سياسات لا تخدم بالضرورة القضايا التي تدعي الدفاع عنها. وهي حقائق ستجعل كل الدول تعيد النظر في قواعد الدبلوماسية المتعارف عليها ليحل محلها الشك والريبة في التعامل والخوف أيضا من احتمالات تسريب كل اتفاق سري وبالتالي انعكاساته على علاقات الدول. فإذا كانت 70 ألف وثيقة التي نشرها هذا الموقع شهر جوان الماضي خصت خبايا الحرب في أفغانستان و400 ألف وثيقة التي تم تسريبها في أكتوبر الماضي ركزت على التجاوزات الأمريكية في العراق فإن 250 ألف وثيقة التي تم تسريبها أمس خصت بشكل يكاد يكون كليا خبايا الدبلوماسية الأمريكية وأسرارا نشرت غسيلها على الملئ وأصبح الدبلوماسي الأمريكي مجرد صفحة بيضاء لعامة الناس يقرؤونه قبل أن يتلفظ ولو بكلمة. وهو الأمر الذي جعل الولاياتالمتحدة تصاب بالذعر والإرباك العام وفسر رد فعلها العنيف على تلك التسريبات والذي سوف لن يجعلها تسكت على جوليان اسانج صاحب هذا الموقع الغامض مصادره وأهدافه من وراء هذه التسريبات التي أدخلته التاريخ من بابه الواسع. ولأنها كانت تتوقع وقع الصدمة فقد أرغمت الإدارة الأمريكية على تهيئة الأرضية لامتصاص وقعها الأولي من خلال اتصالات مع حكومات الدول المعنية بهذه التسريبات وطالبتها بتحضير نفسها حول الطريقة التي يجب أن تتعامل بها مع هذه الوثائق. ولم تهضم الإدارة الأمريكية أن يتم تسريب مضمون مكالمة هاتفية بين الملك السعودي عبد الله والرئيس الأمريكي باراك أوباما طالبه فيها بضرب إيران ''لقطع رأس الثعبان'' بعد أن تسربت معلومات حول اقتناء هذه الأخيرة لصواريخ من كوريا الشمالية وهو نفس الموقف الذي عبر عنه ملك البحرين عيسى بن حمد الخليفة في لقاء مع الجنرال الأمريكي ديفيد بتريوس قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط الذي طالبه بالتضحية بضرب إيران قبل أن تمتلك أسلحة نووية. ولكن الطامة الكبرى أن الوثائق أكدت أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون دعت الدبلوماسيين الأمريكيين إلى التجسس على مسوؤلي الأممالمتحدة وأهم قادة دول العالم. وحسب مضمون إحدى هذه الوثائق فإن كلينتون طالبت دبلوماسييها الحصول مثلا على أرقام بطاقات الائتمان لمسوؤلي الدول التي يعملون فيها ومعلومات مدققة حول شبكة الاتصالات المستعملة من طرف مسؤولي الأممالمتحدة وكلمات السر والشفرات. لبريدهم الإلكتروني وحتى الحصول على طرق سير وأرقام لوحات سيارات مسؤولي حركة حماس في قطاع غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. والمؤكد أن أجهزة المخابرات في كل دول العالم ومصالحها الدبلوماسية وسفاراتها عاكفة منذ أولى التسريبات على دراسة مضامنيها وما إذا كانت قد تم إدراجها في هذه الوثيقة أو تلك لاستخلاص الدرس اللازم ومدى خطورة ذلك على مصالحها في علاقاتها مع الدول الأخرى على اعتبار أن تسونامي ويكليكس لم يستثن أية دولة من ارتدادات أمواجه في فصل شتوي. والحقيقة أن طوفان الحقائق التي سربها ويكليكس يعطي كل المبررات للولايات المتحدة أن تصف ما أقدم عليه جوليان اسانج بالخطير وغير المسؤول لأنها أدركت الأشواك التي ستجنيها من مثل هذه العملية التي لم تكشف كل الخبايا بعد.