التقت أوّل أمس شتى الطبوع الغنائية الجزائرية في مدح الرسول الكريم في ذكرى مولده، وكانت المدينة التي تقع بين التلّ والصحراء من جديد على موعد آخر مع التاريخ والإنسان، فلبست تلمسان في تناغم ساحر عباءة حاضنة الفن والأصالة وهي تفتح ذراعيها للقادمين للاحتفال بخير البرية في أمسية تعانق فيها البارود بالنغمات العيساوية تحت وقع صهيل الأحصنة العربية، رفرفة السناجق وزغاريد النسوة. اجتمع التلمسانيون أوّل أمس بساحة ''المشور'' الذي أسّسه الملك يغموراسن، وأقيمت فيه خلال عهد السلطان أبي حمو الثاني ليلة المولد النبوي الشريف احتفالا بفكّ الحصار المريني عن تلمسان (الذي استمر إحدى عشرة سنة)، ليحتفلوا على طريقتهم بالمناسبة ويمنحوا الزائرين لمدينتهم قبسا قليلا مما تحمله عاصمة الثقافة الإسلامية في جعبتها التي تعد بالكثير من المحطات الإبداعية التي تمكّن الجزائر من التصالح مع ذاتها لتقود قاطرة التنمية الثقافية وتقتبس من المفاصل التاريخية قيم الحرية والمحبة والتسامح. ''بوماريا''، ''أغادير''، ''تاقرارت''، ''المنصورة'' و''تلمسان'' أسماء تعدّدت لقطب ثقافي وحضاري واحد ''يزخر بتنوّع تراثي ومعالم تاريخية ذات دلالة وشهرة تعبّر عن الإبداعية الجزائرية الشاهدة على عظمة الحضارة الإسلامية في هذه الربوع''، وهذه الاحتفالية التي ستتوّج هذه المدينة عروسا للثقافة الإسلامية ستسمح بإبراز مكانة هذه المدينة العريقة وما قدّمته من عطاءات فكرية وإبداعية وبطولات عبر مختلف الحقب والعصور، وذلك ''لتجديد وعي الأجيال بتاريخها وربطها بالمثل والقيم النبيلة لحماية خصوصياتنا وهويتنا''. المولد النبوي الشريف بجوهرة الغرب الجزائري ومربّع الفقه الأصيل حملت نكهة خاصة هذا العام من خلال مشاركة عدد من الفرق الفنية في إعطاء رمزية أكبر للحدث، حيث تناغم قرقابو ''سيدي بلال'' من سعيدة ب''بارود'' تلمسان ورافقت ''منارة'' مليانة قريبتها من شرشال بالشموع ونشيد ''هذا مولودنا يفرح بنا من مكةوالمدينة، صلوا عليه''، كلّ هذا تحت أنظار أحفاد الزيانيين الذين أمّوا المشور. وعلى وقع أنغام موكب الفرق العيساوية القادمة من تلمسان، عنابة وقسنطينة، افتتحت وزيرة الثقافة خليدة تومي معرض ''ليلة المولد النبوي الشريف'' الذي يستعيد بدايات الاحتفال بهذه المناسبة الدينية منذ سبعة قرون بالمشور في زهوة بني زيان، كما يذكّر بأبرز لحظات الاحتفال حيوية وأخوية لدين سخي متجذّر في التراث الإنساني. ومن أهمّ ما يحتويه هذا المعرض المقسّم على قاعتين، قطع فسيفسائية من النوع ''القيراطي'' من آثار المنصورة، إلى جانب ''المنجانة''، النقود الزيانية، الألبسة التقليدية، وأيضا مجسّم ل''المنصورة'' أو المدينةالجديدة وآخر لمنجنيق، علاوة على مجسّم لمنارة مليانة وعدد من المخطوطات على غرار مخطوط كتبه المحرم السيد الفقيه محمد الغماري في شرح الألفية لابن مالك في القواعد، وجزء من مخطوط المصحف الكريم. كما يحتوي المعرض أيضا على لوحات توضيحية تحكي حصار تلمسان الطويل، نزوح أبي حمو الثاني إلى قرارة، تاريخ قصر المشور، المولد النبوي في تيميمون أو ''يوم الحفرة'' وكذا ''السبوع، المولد بالقنادسة (بشار)، إلى جانب عدد من المراجع التاريخية حول مدينة تلمسان. الشقّ الفني من هذه الاحتفالية، احتضنته دار الثقافة ''عبد القادر علولة'' المقابلة للمشور، حيث تحوّلت قاعة دار الثقافة إلى فسحة لتمازج المدائح الدينية القبائلية من توقيع ''لخوان'' مدن معاتقة (تيزي وزو)، بأهازيج فرقة ''الأهاليل'' ''بنات المغرة'' من تيميمون، وكذا فرقة ''الزفنات لالة فاطمة من القنادسة''، و''الفردة'' من بشار. ''لخوان'' من معاتقة حملت معها نسمات جبال جرجرة وذكرت مناقب سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام عبر ''أذ صليغ ان نبي فلاك''، ''يا مكة سورك عالي وعليه الغمامة، ساكنك سيدنا محمد صاحب الشفاعة''، وأيضا ''جيناكم زيارة''، أمّا ''بنات مغرة'' فقدمن أغاني مرتبطة بالحدث فكانت ''بسم اللّه''، ''صلوا على محمّد''، ''ماعندي والي إلاّ انتم'' و''نزور البقاع'' قبل أن يفسحن المجال لفرقة ''زفنات لالة فاطمة'' من القنادسة ويمتعن على وقع الدفوف ب''الصلاة عليك يا النبي العربي''، ''اللّه'' و''اللّهم صلي على النبي'' وأيضا ''الشمس طلعت''. وحملت فرقة ''الفردة'' أجواء استثنائية وقدّمت مزيجا من الكلمات القوية والأداء المتميّز في توليفة فريدة من نوعها بين الأغاني الصوفية بآلات تعانقت فيما بينها فكان العود، الكمان، البانجو، القمبري، المحرز والدربوكة والتعريجة متناغمة مع نصوص تعود لمئات السنين لكن وقعها السماعي يحمل الكثير من المعاني والدعوات للتأمّل مما يخلق فرجة لا تقاوم وسحرا موسيقيا حقيقيا. ''الفردة'' أبدعت وأمتعت، فغنّت ''سلام على الروضة وفيها محمّد'' وفيها ''دمعي زكي والنار في كبادي، يا شمس المغيب سلّم على الهادي، أقرئ سلامي لسيد الأمّة، تاج الكرام خلقه الإله رحمة، في يوم الزحام اجعل لنا رحمة''، ليتواصل التميّز في ''يا العالم ما في الصميم، جود عليّ برضاك'' ولا يمكن أن تحضر ''الفردة'' دون أن تسافر بالحضور إلى عوالم المناجاة والتمني وإن لاق تقدّم رائعة ''سيدي بن بوزيان''. ''يا الشيخ بن بوزيان، في عارك راني، غيثني تفاجى الخاطر، غيثني تفاجي لمحان، ما عندي والي بغيرك أنت يا سلطان، أنت سيدي وشيخي يا بن بوزيان''، هو مقطع ردّده كلّ من كان في القاعة تخلّله زغاريد تختلف مخارجها لكن هدفها كان الحبور والتأكيد على حبّ كلّ ما هو جميل وفيه من الإبداع ما يبعث في النفس السكينة. ئ اليوم الأخير من هذه الاحتفالية وقّعها فنانون من العاصمة ومن تلمسان مرفوقين بالاركسترا السيمفونية حيث قدّم عبده درياسة وندى الريحان أغنية ''زاد النبي وفرحنا بيه''، كما قدّم كلّ من ليلى بن مراح وتوفيق بلغبريد نفحات من الفن الأندلسي الأصيل. وها هي تلمسان تقلب صفحة من سجلها، لتقرأ أخرى سيكون عنوانها بالتأكيد معانقة الماضي والحاضر في تناغم ساحر وأولى سطور هذه الصفحة ستقرأ في السادس عشر أفريل القادم في افتتاح رسمي لتظاهرة ''تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية'' التي ''لا نملك سوى أن ننخرط معها في كيانها وهي تثب بخطى جريئة لتجديد يومياتها، لأن الوعي بالتاريخ، يبدأ بتجذير عناصر الهوية بعيدا عن الانغلاق والانطواء العقيم''. مبعوثة ''المساء'' إلى تلمسان: نوال جاوت