الحديث عن المسرح هو الحديث عن التاريخ، المجتمع، الحضارة، الثقافة و الطموحات، عن كل شيء يخص هذا الإنسان الذي شغف أن يكتشف نفسه من خلال المسرح وراح يوسّع من مساحة الركح الأسطورية والخيالية، ويعبر بها إلى الواقع، إلى الإنسان بكل طبقاته الاجتماعية وإنجازاته الحضارية، طموحاته المستقبلية وسجلاته التاريخية، لكن مايزال المسرح يلعب هذه الأدوار ولم يتخل عنها، ولم يعتزلها في كثير من المسارح العالمية، وهكذا كان المسرح الجزائري يشارك في هذه الإنجازات، إلى أن أصابه بعض الوهن والارتخاء في مفاصله، فإلى من يعود السبب، هل لانعدام النصوص أم لتكرير ما تم اقتباسه. لم تكن لي رغبة في الكتابة عن المسرح الذي انقطعت عن الكتابة عنه منذ مدة، إلا أن ما استفزني لإعادة النظر في هذا الموضوع الجديد القديم، هو وجود أقلام تكتب النصوص المسرحية، غير أنها لم تر نورا بعد، وتظن أنها تتعرض لحصار بفعل فاعل وليس بسبب ضعف النصوص التي تبدعها، وقد تم طبعها بل بعض المسارح الأجنبية اتصلت بدور النشر التي طبعتها لتشتري منها حق الطبع، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن النصوص الجزائرية الأصلية غير المقتبسة من كبار كتاب المسرح العالمي، يمكنها أن تعطي المسرح الجزائري دفعا قويا نحو التحرك، والإسهام مرة أخرى في إثراء المسرح المغاربي والعربي، حيث أثبت المسرح الجزائري جدارته بما أنتجه من مسرحيات ك''القراب والصالحين''، ''حمام ربي''، ''الشهداء يعودون هذا الأسبوع'' والكثير من النصوص المسرحية سواء التي كتبت باللغة العربية أو الفرنسية بأقلام جزائرية، إضافة إلى السكاتشات التي كانت تجذب المشاهد الجزائري ويتجاوب معها أكثر مما يتجاوب مع المسلسلات الكوميدية الأخرى، خصوصا إذا كانت هذه السكاتشات أو الأفلام ذات الصبغة الفكاهية تعالج قضية من قضايا المجتمع، ومن منا لم يتجاوب مع حسن الحسني رحمة الله في ''تي قول وتي قول با''، و''سي بلقاسم البرجوازي'' أو المفتش الطاهر وسكاتشاته مع المرحوم يحي بن مبروك وغيرها من الأعمال ذات الصبغة المسرحية التي تدخل الفرجة على المشاهد، وفي نفس الوقت توعيه من خلال معالجتها لموضوعات اجتماعية، بالإضافة إلى الانتقادات البناءة التي من خلالها تحسس المسؤولين بما هو كائن في واقع المجتمع، وكأنما المسرح كان يؤرخ للمراحل التي مرت بها الجزائر في عهد الاستعمار، وعند الحركات الوطنية والإصلاحية، ومن ثم الثورة، ثم عهد الاستقلال والتجارب التي خاضتها الجزائر في ثوارتها الثقافية، الصناعية والزراعية. المسرح وكتابة النص المسرحي كانا يفرضان نفسهما بقوة منذ الاستقلال مع مصطفى كاتب وباش طارزي، إلى كاكي وغيرهم ممن تركوا بصمات واضحة وأبدعوا في المسرح، وأضافوا له إضافات اعترفت بها كبريات المسارح العالمية مثل ''القوال''. ومما ترك المسرح الجزائري يعبر الحدود ويفرض نفسه في المهرجانات الدولية ويكسب جمهورا عريضا، هو قراءته للواقع قراءة تعتمد على معرفة الذات حتى ولو كان النص المقدم نصا مقتبسا من مسرحيات عالمية مثل؛ ''القراب والصالحين'' التي يعتقد البعض أنها مسرحية مقتبسة من نصوص صينية قديمة، إلا أنها جزائرية أصيلة موجودة في قصيدة شعبية تروي هذه القصة بذات الطريقة التي كانت ترويها الأشعار اليونانية القديمة. المسرح الجزائري وصل كبقية الأعمال الفنية الأخرى أوجه في فترة السبعينيات من القرن الماضي، ثم بدأ في الخفوت والأفول، وقد يكون سبب هذا الخفوت بفقدانه عمالقته، أو لأنه يتخبط كبقية القطاعات الأخرى في أزمته المادية، النصية والاحترافية، وأصبح مسرحا ارتجاليا يدور في مساحات ضيقة، فقد من خلالها جمهوره وأيضا كتابه ومبدعيه. ولإنصاف المسرح، ليس وحده من بقي يتخبط في هذا الفقر المدقع للنصوص، رغم أن بعض المسرحيات في مسرح الهواة بمستغانم، والتي فازت بجوائز هذا المهرجان، كان بمقدورها أن تؤسس للجمهورية الثانية للمسرح وتعطيه نفسا جديدا من خلال الفرق والمواهب الشابة التي كانت تشارك بإبداعاتها، وأخص هنا بالذكر مسرح بلعباس، بجاية، برج منايل، عنابة وغيرها من المسارح، إلا أنها وللأسف مسها الخمول والتراخي، كذلك الذي مس نص كلمات الأغاني والشعر الشعبي والموسيقى، وذلك من خلال انسحاب عمالقة كتاب الأغنية ومؤدوها أمثال؛ الحاج رابح درياسة، محبوباتي، أحمد وهبي والحاج محمد العنقا الذين كانوا ينتجون النصوص أو ينقبون عنها في التراث، ليقدموها بروح العصر ويمزجون بين العصرنة والأصالة. الاقتباسات المسرحية، لجأ إليها البعض متعللا بانعدام النصوص المسرحية وافتقارنا لكتاب هذه النصوص، ثم دار الجدال طويلا حول اللغة التي يمكن أن نكتب بها المسرح هل العربية الفصحى، الدارجة أم البحث عن لغة ثالثة؟ بقي هذا السؤال مطروحا ولا يزال ليومنا هذا رغم أن المشاهد الجزائري يتجاوب مع جميع هذه اللغات، سواء فصيحة أو دارجة أو حتى لغة ثالثة بين الفصحى والدارجة، وهذا ما نلاحظه في مشاهدته للأفلام والمسلسلات المدبلجة وكذا الدينية والتاريخية، التي تهتم بشخصيات علماء الدين والتاريخ، وهذا ما تأكد جليا في اللغة التي جاء بها فيلم ''الرسالة'' لمصطفى العقاد، والذي كان من بين كتاب سيناريوهاته، الكاتب المسرحي الكبير توفيق الحكيم رحمه الله. إذن اللغة لم تكن يوما عائقا لتقديم مسرحية جيدة، وإنما العائق هو الإنسان نفسه الذي يشتغل على المسرح، والذي يختار النصوص المقدمة لتتجسد إلى مشاهد وفصول مسرحية. بمقدور المسرح استرجاع جمهوره المفقود والعودة به إلى واجهة الأحداث، خصوصا وأن التغييرات التي يشهدها عالمنا العربي والاسلامي، والتطورات التي تشهدها مجتمعاتنا في جميع الميادين السياسية، الاقتصادية والديمقراطيات التي تضمن حرية التعبير والنقد وتمجد الفرد كما تمجد المجتمع، كل هذا يجعل من المسرح والكتابات المسرحية الواعية بالرسالة وبالتغيرات الحاصلة أن تقدم فنا راقيا ومسرحا واعدا. قلت سبب كتابة هذا الموضوع ''المسرح بين التأصيل والإقتباس... هل نفتقر إلى النصوص أم الركح''، كان لقائي بأحد كتاب المسرح، وله حوالي خمس مسرحيات مطبوعة تقدم بها إلى الجهات المعنية، إلا أنه لم يلق إلا الأبواب الموصودة والآذان الصماء، هذا الكاتب هو الذي يرمز إلى اسمه ب: ''ك.ل. ابن آدم'' ومن مسرحياته التي أضعها صورة لهذا الموضوع، مسرحية ''دار الشك'' التي صدرت عن دار الخلدونية في طبعتها الأولى سنة .2007 وقد طلبت إحدى دور النشر الأجنبية من الدار الناشرة شراء حقوق النشر.