إن تبريرات ملء الفراغ الذي يعرفه المسرح الجزائري بالاقتباس لا يمكن أن تقنع أحدا ممن يهمهم أمر المسرح خصوصا والثقافة بوجه عام. لم يخرج المسرح الجزائري منذ فقدانه لأعمدته المسرحية من دائرة الاقتباس وتكرار ما تم عرضه أو كما يقال ترقيع البالي وكأنما ليس هناك أحداث اجتماعية وثقافية كبرى تدفع بمن يشتغلون على الركح إلى تطوير المسرح أو على الأقل جعله يواكب الأحداث ولا يكتفي باجترار تراثه الذي لم يعد يتناغم والواقع المعيش، فهل يبعث المسرح الجزائري من جديد؟ رغم المشاكل الجمة التي يعاني منها المسرح الجزائري بشكل عام وكتابة النصوص المسرحية بشكل خاص واللغة التي تقدم بها هذه النصوص سواء تلك المقتبسة من المسارح العالمية أو المنتجة محليا. النص المسرحي ما يزال يعاني ويتخبط في تشكيل لغوي لم يستطع تبيانه أو فرز مصطلحات يمكن الكتابة بها وجعلها تحدث لغة تخاطبية تقاربية بين جميع مناطق الوطن. اللغة المسرحية عندنا مازالت تعاني من اللغة العشوائية، فالكتابة باللغة العامية تجد نفسها أمام عدة لغات أو لهجات محلية، والداعون لاستعمال اللغة العربية الفصحى هم أيضا يعانون من نقص النصوص وتجديد الكتابة المسرحية لقلة الأدباء الذين تخصصوا في هذا النوع الأدبي والفني، وحتى وإن توفرت النصوص التي يمكن إحالتها إلى كتابة مسرحية فهي تجد الصعوبة بمكان من ناحية اللغة التي يمكن أن تكتب بها، خصوصا أننا نلاحظ ارتقاء الكتابة الروائية عندنا لسدرات فنية راقية ممزوجة باللغة الصوفية المرمزة أو تلك التي تلامس تخوم الشعر ومشتقاته التعبيرية حيث ترتقي اللغة وتتطاول على النص المسرحي الذي يعمل دائما على محاوله إنزال اللغة الأدبية الإبداعية إلى مستويات سطحية وبسيطة متهما المتلقي بعدم استجابته واستيعابه وفهمه لهذه اللغة أو تلك. وليس مشكل المسرح عندنا يحصر كله في الجانب اللغوي أو البحث عن اللغة التي يمكن أن تكون لغة عمومية يفهمها كل الناس لأن المسرح لا يحتاج في حقيقته إلى البحث عن لغة، بل إن مستويات اللغة المسرحية هي الضامن له بالتحسن والانبعاث لأن المسرح ليس بالفن الجماهيري المعمم، بل هو يقدم للنخب الجماهيرية لأن تعميم المسرح ونعته بالجماهيرية فيه شيء من الأدلجة والتعتيم وفي ذات الوقت التوجيه بدل تحرير المسرح وتركه يترقى إلى المستويات الفنية ويصنع نخبه وجماهيره بنفسه دون محاولة أدلجته أو تلوينه بألوان مختلفة مثلما عرفته مراحل الاشتراكية المقتبسة من المجتمعات الغربية التي تتقاطع ثقافيا ودينيا وفكريا ومجتمعاتنا. كما أن هناك فراغات أخرى يعاني منها المسرح وهي النقد المسرحي الموضوعي الذي يخرج عن إطار المجاملات المتبادلة في كل مسرحية يتم الإعلان عن العرض الشرفي لها تخصص للأصدقاء والزملاء حيث يتم تبادل الإعجاب بعد إسدال الستار وتنتهي المسرحية بإسدال الستار ولا تعرف شبابيك المسرح إقبالا جماهيريا ولا حتى الجماهير النخبوية التي تتذوق الفن المسرحي. كما أن المسرح عندنا ما يزال يعتاش من الاقتباسات ومن النصوص القديمة التي لم تعد تتلاءم والمجتمعات الحديثة التي تتميز بالاتصالات السريعة والتي حولت العالم من خلال التكنولوجيا إلى مجرد أزرار حين ملامستها نلج أي منطقة في العالم نريدها، فالوسائل التكنولوجية الحديثة ألغت الكثير من الوسائل القديمة والتجهيزات المسرحية القديمة وأصبحت تلعب دورا محوريا في كل شيء حتى في مصطلحاتنا اللغوية التخاطبية خصوصا إذا كنا نحاول التواصل بين الأجيال القديمة والأجيال الحديثة التي استبدلت كثيرا من القيم بقيم أخرى وتحول الإنسان إلى إنسان عالمي لا يمكن أن نحصره في جهة أو منطقة أو ثقافة وخصوصية بذاتها، ومن هنا نشأ ما يسمى بصراع الحضارات وليس بحوارها لأن هذه القيم هي التي تتصارع داخل الإنسان نفسه بين الرفض الذي تحدثه عواطفه وموروثاته بين القبول الذي تفرضه عليه التكنولوجيات والابتكارات التي تنتجها مجتمعات الحداثة. نحن في الجزائر استطعنا في مرحلة من المراحل أن ننتج مسرحا ايديولوجيا وأن يتألق هذا المسرح وينال الإعجاب ويحصد الجوائز الدولية والإقليمية لكن ذلك كان إبان الصراعات الايديولوجية الناشبة بين المجتمعات الشرقية الاشتراكية والغربية الرأسمالية، أما اليوم وبعد انهيار المجتمعات الشرقية الاشتراكية أو إن صح التعبير الايديولوجية التي كانت تسيرها تغيرت المواقف وأصبح العالم واحدا ذا نزعة رأسمالية متوحشة لا مكان فيها للضعيف ولا تبنى على العواطف، بل على المصلحة والحسابات وحدها الربح والخسارة. فهل نبقى نحن نحاول إقناع نفسنا بالاقتباس من القديم دون التطلع للجديد ودون فتح مجال أوسع للأجيال حتى تبرهن عن قدراتها الفنية وتساهم بأفكارها دون وصاية أو أبوية أو إيديولوجية موجهة. المسرح يقتات من القديم وما يزال يبحث عن نص، عن لغة، عن جمهور، وحتى عن ممثلين مبدعين لهم قدراتهم الثقافية في تقمص تاريخنا الثقافي يعيد الماضي وتجسيد أيضا الحاضر ومواكبة المعاصرة بكل ثقافاتها وأفكارها ومخيلاتها حتى تسير والعصر بخطى متوازية ومتوازنة، فهل الاقتباس يبعث المسرح الجزائري من جديد؟ أم يبقى المسرح يتخبط في مستنقع التكرار والاقتباس دون أن يخرج إلى فضاءات الإبداع.