أصبت بالغثيان هذه الأيام مما أسمعه وأراه على شاشات القنوات العربية، فبين النشرة والنشرة عاجل، وبين العاجل والعاجل عاجل: ضحايا، قتلى، شهداء قصف الطائرات، دك المنازل والمحلات، القذائف المدفعية والصاروخية، عدد التقلى صبيحة هذا اليوم... الجيش الأسدي، الجيش الحر... خشيت على نفسي الجنون وكادت المعارك الدائرة في قرى ومدن وأرياف سوريا تقذف بي إلى الجحيم، حاولت تجنب المشهد فألفيت نفسي أحد شخوصه أتلظى بنار هذا وقذائف ذاك، أهملت كل القنوات، وتناولت جريدة قدرت أنها محايدة، فقرأت على صفحتها الأولى: حصيلة هي الأعلى منذ بدء... معارك هي الأعنف منذ بدء... فشل مهمة المبعوث المشترك، الدولة السند تجلي رعاياها... بدء العد العكسي للحكم... رغم أنني كنت غير راغب في النوم لأن الكوابيس في هذه الحالة تكون عنيفة قاتلة، إلا أنني وجدته أمرا لا مفر منه، فرميت بجسدي على فراش مل أنيني وتأوهاتي وعذاباتي، ونمت على الشوك، ورائحة الموت وأطيافه تحفني، ورأيت نفسي فيما يرى النائم أقف وسط أشلاء من بقايا بشر مثلت بجثثها مخلوقات لم يعلم أحد هويتها ولا جنسها، أضحى الناس في تلك المدينة يخشون بعضهم، كل يشك في الآخر ويحترس منه، لم يسمح القتلة بدفن الأشلاء حتى تكون عبرة للآخرين أو تكون مادة للمصور، وتدخل بذلك عالم الإشهار والبزنسة، سمع الناس ضحكات ثم تحولت إلى قهقهات شيطانية آتية من جبل الجولان وتلاله.. خلفنا دمشق تبكي وتنحب وسط الضحايا، الدم في كل مكان، والدخان يتصاعد من كل شارع وبيت.. دمشق كانت تبكي يوما على الجولان، وتندب روابيه، اليوم تبكي حالها وتندب انفرادها... تعالت قهقهات الجولان تمزق أكبادنا وتدمي أفئدتنا... يطل الجولان على دمشق.. على حلب وحمص وأرياف الشام كلها ويضحك كلما احترق مسجد أو تهدمت مئذنة، أو تفحمت جثث، تعالت ضحكاته، والناس بين الجولان ودمشق بين ضاحك وباك، وبين قاتل ومقتول، اشتدت قهقهات الجولان وتعالت وبلغت عنان السماء وتحولت إلى بكاء حاد امتزج ببكاء الباكين، واختلط بنحيب دمشق الدامي ورأينا بأم أعيننا الحصان العربي يحترق، وسيف الفارس يسقط ورايات ترفع وأخرى تنزل، وسكان القرى العربية خلف الجولان وخلف دمشق وحتى البعيدة عنها يتدافعون على تذكرة الدخول لمشاهدة المسرحية ولم ينقذني من هذا الكابوس إلا الأول من آذان الفجر.