قلت بيني وبين نفسي وأنا أتفرج في صفحة من صفحات الإنترنت على أوبرا ”لاترافياتا” للموسيقار الإيطالي العظيم ”جيوسيبي فردي” (1813-1901): إنك، يا هذا، قبالة قمة من قمم الفن العالمي منذ أن وجد الفن أصلا. حين برز المطرب الأوبرالي الشامخ ”لوشيانو بافاروتي” وجعل يؤدي تلك الأوبرا، وجم الحاضرون كلهم أجمعون، وما إن انتهى من تأدية المقطع الأول حتى انفجرت القاعة كلها بالتصفيق. والإنفجار هاهنا يؤدي المعنى الحقيقي ويجسد ما حدث في تلك القاعة التي كانت تعج بالآلاف من عشاق الفن الأوبرالي. تموجات صوتية لا يقدر عليها إلا ”بافاروتي” أو المطرب الأوبرالي ”إنريكو كاروزو”، صاحب الحنجرة الذهبية التي لم يجد الزمان بمثلها. غير أن ما لفت انتباهي وزاد من إعجابي بتلك الأوبرا وبالموسيقيين وبالمؤدي بافاروتي: إنما كان قائما في وقفة الحاضرين المنصتين، وفي سلوكهم الأخلاقي الحضاري. شعرت فعلا أنهم بتصفيقاتهم يمنحون ”بافاروتي” شهادة الدكتوراه الفخرية ويرفعونه إلى قمة الفن نفسها ليتربع عليها على الدوام. أحسست أن التعبير الحضاري موجود في تلك العاصفة من التصفيقات التي تزلزلت لها القاعة، ولست أدري أية قاعة كانت، أهي ”سكالا دي ميلانو”، أم هي قاعة إيطالية أخرى! وغبطت كلا من ”لوشياني بافاروتي” و ”جيوسبي فردي: على ذلك التقدير. وتساءلت بيني وبين نفسي مرة أخرى: ثم ماذا لو أن أبا الطيب المتنبي أو ابن زيدون أو معبد أو إسحاق الموصلي كانوا قبالة تلك الجحافل من المصفقين الذين يرفعونهم إلى الدرجات العليا من التقدير؟ كل ما كان يرتجيه أولئك الأفذاذ إنما هو أن ينظر إليهم هذا الخليفة أو ذاك نظرة عطف، ثم يمنح أحدهم كمشة من الدنانير أو جارية من الجواري لكي يتسلى بها في وحدته. ذلك ما نقرأه في الأدب العربي كله. والمحظوظون منهم كانوا ينالون قطعا من أرض يتمعشون عليها في نادر الأحيان، والكثيرون منهم كانوا ينتظرون ضربة سيف لأتهم لم يحسنوا المدح، أو ينفون نحو الفيافي والقفار. من حسن حظ ”بافاروتي” أنه وجد تراثا أوبراليا خارقا، ووجد عازفين وقادة أوركسترا يعضدونه في أثناء الأداء، ووجد- وهذا هو الأهم- من يقدره وسط الجماهير، ويغدق عليه، لا أموالا ولا فدادين وهكتارات من الأرض الخصبة المفلوحة، بل، آلافا من الذين يقدرون الفن حق التقدير، ويمطرونه بوابل من التصفيقات التي لا يمكن إلا أن تكون عبارة عن شهادة دكتوراه فخرية. وقد تكرر ذلك طيلة حياته المفعمة بالفن الجميل والأداء الراقي الذي لا نظير له في عالم الأوبرا.