الشعر جمال القول الذي يتلون بالإيقاع وتتكيف فيه الصورة حسب لون المعنى، ولهذا نجد جمالية القول تختلف بين شاعر وآخر، بل نجد مستوى القصيدة عند شاعر واحد تصعد وتنخفض حسب قوة الحدث النفسي واصطدامه بأحاسيس ومشاعر الشاعر نفسه؛ حيث تفسر لنا مؤشرات التأثر هذا المستوى في الجودة والتدني، ولا أحد ينكر أن الشعراء يغزلون وينسجون من مادة واحدة وهي اللغة، لكن الجمالية والقوة والقدرة الفنية لا تتحدد من خلال مادة الغزل والنسيج وإنما تتحدد من ذاتية الشاعر وقدرته على إخراج، من هذه المادة، منسوج بألوان وصور وإيقاعات وتناغمات تختلف وتتنوع عن باقي المنسوجات الأخرى. ”الجاحظية” استضافت لمنبرها” الشعر الشعبي” مجموعة من الشعراء والشاعرات، تنوَّع غزلهم في اللون والصورة والإيقاع، أول أمس، ما بين ملحون وشعبي وفصيح. لم يكن رواق الجاحظية، كما عوَّدنا في أمسياته، بحضور جمهور يُعدّ على أصابع اليد، بل امتلأ عن آخره بالشعراء الذين جلبهم شاعر باب الوادي بالعاصمة زينو، ليستضيفهم في هذه الأمسية التي ارتفع المستوى الشعري فيها وانخفض. أول من صعد على منبر الشعر ”عمي يحيى”، كما نلقّبه، وهو يحيى حدوش الشاعر الذي يلتزم في شعره دائما بالحب والإيخاء والوحدة الوطنية والتخلق بأخلاق الإسلام، حيث قرأ على الحاضرين قصيدته التي يرددها دائما باللغات الثلاث؛ العربية الدارجة والقبائلية والفرنسية، والمعنوَنة ب ”بلادي”، التي يقول في مطلعها ”شحال انحبكم ياديني ويا ناس بلادي وشعبي”. وبعد عمي يحيى صعد إلى المنبر الشاعر عمار صاو صاو، الذي ألقى قصائد في الغزل، كانت أولها قصيدة ”ما نعرف عنوانك”، والتي جاء في بعضها: ”ما نعرف عنوانك، ما نعرف نرسم لحروف، المكتوب القانا، ولقانا الروح للروح، وكلمة الحب منها القلوب تتعافى.. مثل الورد لنّوار الصبوح”، وقصيدة أخرى يقول فيها: ”إذا كان حبك إهانة.. نجاوبك أنا برفع الصوت”. المفاجأة الشعرية بكل بعد الكلمة الشعرية هي الشاعرة البلعباسية التي غرّدت على عقد الحضارة العربية الإسلامية؛ من خلال إعدام الرئيس صدام حسين، هي كريمة مختاري. في البداية ألقت قصيدة جميلة صوّرت من خلالها رحلتها من مدينة سيدي بلعباس إلى الجزائر العاصمة، والتي تقول في مطلعها: ”من بلعباس جاية للعاصمة..... وأنا في الطريق هاجولي لفكار”، ثم ألقت قصيدة عاطفية تجاوبت معها القاعة، والتي تقول في أولها: ”قبل ما نشوفك كنت عادي في عادي...”، أما قصيدتها في رثاء صدام حسين فتقول: «عقد العربية في الأرض أتزربع .. كنا تبهاو بيه ونفتخرو.... المعتصم محال يأبى يرجع.. المعتصم راه راقد في قبرو”. وواصلت الشاعرة مفاجأة تألقها في الشعر الملحون حين ألقت قصيدتها المشفَّرة، وهي هدية ل ”صديقة”، والتي تقول في بدايتها: ”في قلبي مازلت يا عمري ساكن.. وفي وهمي ما زلت ما بين أحضاني”. وبعد الشاعرة البلعباسية جاءتنا شاعرة من المهجر تضرب جذورها في المقاومة، ارتوت عروقها بالدم الطاهر، غنّى أجدادها للحرية، ولأجلها دفعوا ضِعف الضريبة التي يدفعها المواطن الحر الشريف لحرية وطنه، وهي ضريبة الدم والجهاد، ثم ضريبة التهجير والإبعاد عن الوطن، ولم تكن مجرد صدفة ونحن نحتفل هذه الأيام بنداء الشيخ الحداد التاريخي في سوق صدوق ببجاية، داعيا إلى الجهاد وإخراج الاحتلال الفرنسي من بلادنا؛ حيث استجاب له الإخوان الرحمانيون لندائه، لتندلع ثورة 1871، التي قادها الشيخ محمد المقراني، ومن بعده أخوه البطل أحمد بومزراق. الشاعرة هي فاطمة الطيب التي جاءت من سوريا وهي جزائرية الأصل والمفصل، سبق لها أن فازت بجائزة سعاد الصباح للشعر عن قصيدتها ”الأشباح” وكتبتها عن وطنها الأصلي الجزائر، قالت الشاعرة: ”أنا سعيدة جدا، وأود أن أقول شيئا، أنا جزائرية مولودة في سورية، هاجر أهلي إلى الشام في شمال فلسطين، ونحن أحفاد المقراني والشيخ الحداد، ونزحنا إلى شمال فلسطين سنة 1871”. الشاعرة فاطمة الطيب ألقت قصيدة عمودية باللغة الفصحى، وضعت فيها سكين الحروف على الجرح الذي تنزف فيه سورية الشقيقة، قصيدة باكية شاكية مع كل الذين يتألمون وينزفون، ومع كل من يفقد أحدا في هذا الخبط العشوائي، القصيدة الرائعة سجلنا منها هذه الأبيات: «من الشام الأبية جئت ولهى... أترجم ما تضج به القلوب وأسئلتي تحاصرني مساء... وتسألني إذا جاء المغيب؟ لماذا نحن خلف الخبز نجري... وقد ضاقت بحنطتنا السهوب؟!” إلى أن تقول : أُسائل كل حقل عن ربيع... غرَّد في مداه العندليب ويا عيسى بن مريم هل نخيّل.... تهز فيرتمي تمر رطيب سلام يا جزائر وأنت فينا... نشيدا للبطولة لا يغيب” وبعد هذه القصيدة ألقت الشاعرة فاطمة الطيب قصيدتها التي نالت عليها جائزة سعاد الصباح للشعر، والتي عنونتها ب ”الأشباح”، جاء في مطلعها: ”زحف السحاب على انكسار الأفق.. يومئ للذهاب.. وترددت أصداء أصوات الرعاة.. خلف التلال يعجلون في الإياب... الليل يدنو... والليل يعلو كل شيء والقرية السمراء.. الليل أكمل طوقه حول البيوت....و المعابر...”. وبعد هذه الشاعرة صعد كل من الشاعر ياسين بوشارب، ياسين ولد عزوز، الشاعر صحراوي وخليدة بوقليمينة، لتنتهي هذه الأمسية بهذا النسيج من الشعر الذي تخلّلته قصائد بالفرنسية من قبل الشاعر ياسين ولد عزوز، وكانت الأمسية بين الارتقاء بالشعر إلى مستوى الشعر والانخفاض به إلى الكلام العادي الذي ليس فيه من الفن من مبنى ومعنى ليحوّله إلى جمل شعرية.