أفنى ساعي البريد محمد الغنجة قرابة 40 سنة في مهنة اجتماعية بامتياز، من عام 1976 إلى 2014، مسيرة طويلة حدثنا عنها بالكثير من الحب لمهنة أضحت اليوم تعاني العديد من المصاعب، ولولا حبه لها وارتباطه الشديد بها لما استمر فيها، بل يسعى إلى توريثها للأجيال عن طريق اقتراحها في البرامج التكوينية بمعاهد التكوين أو غيرها. من الصفات التي ترتبط بساعي البريد أنه يكون مسؤولا عن توصيل الرسائل البريدية المصنفة والجاهزة للتوزيع بأمانة كبيرة. وهو العمل الذي يوصف بالاجتماعي بامتياز كون الساعي على مر السنين لا يحفظ العناوين فقط، إنما أسماء الناس وحتى أحوالهم وكيف يلقاهم بمزاج هادئ أو متقلب. كما أنه الشاهد على الكثير من التغيرات سواء لدى العائلات أو في المجتمع عموما، وهو ما حصل مع العم محمد الغنجة عميد سعاة البريد، فهو يمتهن مهنته هذه منذ 38 سنة وسيحال قريبا على التقاعد. يحدثنا العم محمد عن مهنته فيقول بأنه التحق بها في فيفري 1976 كعون مساعد لساعي البريد، ثم تكوّن في المهنة، حيث كان يخرج مع ساعي البريد في جولاته في توزيع وتوصيل خدمات البريد لأصحابها كل صباح لمدة شهر، وفي الفترات المسائية كان يدرس في مدرسة خاصة بتكوين السعاة بمركز الجزائر محطة، لنفس المدة الزمنية. في هذاالسياق، يعلق بقوله: “كانت المدة التي قضيتها في التكوين التطبيقي والنظري مفيدة لي للغاية، إذ تعلمت فنون الكلام والتصرف مع الناس في خرجاتي مع ساعي البريد، وفي المدرسة كنت أتعلم كيفية فرز الرسائل، من أين تبدأ الشوارع والأحياء وأين تنتهي، أين أجد صناديق البريد، وهو ما ساعدني كثيرا في عملي الميداني بعدها. تعلمت أيضا حقوق ساعي البريد وواجباته حتى لا يظلم ولا يُظلم، مما أخذ مني شهرا آخر من التكوين، ثم خضعت بعدها لمسابقة وكنت في مقدمة الفائزين”. يضيف المتحدث وهو يسترجع معنا بداياته الأولى في مهنته التي أكد أنها متصلة به وجدانيا فيقول: “كان لا بد على المتكون أن ينجح ويكون من بين العشر الأوائل حتى ينال لقب ساعي البريد، أما من ينجح من الرتبة ال11 فما فوق فيحول مباشرة إلى نوع آخر من خدمات البريد، منها أن يعمل في محطات القطار أو المطار في مجال استقبال أكياس البريد والطرود والعمل على توزيعها على المراكز البريدية حسب العناوين الموجهة إليها”. ويقول العم محمد بأن عمله اجتماعيٌّ بامتياز، لأنه بمرور الأيام والسنين وصل إلى حفظ أسماء الناس وعناوينهم، بل حتى نفسيتهم وكيف يتحدث مع هذا ويتعامل مع ذاك. لكن الأمور اختلفت اليوم كثيرا، فإلى جانب تغيّر طبائع الناس وتدني مستوى التعاملات بينهم، تداخلت عوامل كثيرة صعبت عمل سعاة البريد، ومن ذلك صعوبة تحديد عنوان الرسائل التي يحملونها، إما لعدم ورود عناوين صحيحة أو لتشابه أسماء الأحياء، مما جعل الساعي اليوم يدون تسمية الحي القديمة الموروثة عن المستعمر والجديدة لتسهيل مهمته، كما أن المواطنين لا يقومون بالتبليغ عن مقرات سكنهم الجديدة في حال تغييرها. العم محمد الغنجة سيتقاعد في مارس 2014 بعد قرابة أربعين سنة في ميدان توزيع الرسائل، تخرج على يده العشرات من سعاة البريد وهو اليوم يتحسر على مهنة لم تعد تجلب الأنظار، ويطالب بدعمها ودمجها ضمن البرامج التكوينية لاستمالة أنظار الأجيال إليها.