تتداخل الخيوط وتتشابك بعد أن ينتهي مصمّمها، الفنان علي كوسة، من نسجها بشاعرية لا توصف تترجم معاني الألم والأمل بألوان ناطقة تعكس بضوئها أجواء من مسارات الحياة التي تتجدّد كلّ يوم بفعل الإنسان المرتبط دوما بفطرة حب البقاء. يتضمّن المعرض التشكيلي الذي ينظّمه الفنان علي كوسة بقصر الثقافة والذي تستمر فعالياته إلى غاية 26 فيفري الجاري الكثير من قضايا الواقع الموقعة بأسلوب خاص بالفنان يجتهد من خلاله لإثارة مواضيع متداولة في يوميات الجزائريين مع إعطائها بعدا فلسفيا يعكس أفكار هذا الفنان وقناعاته. فنيا يعتمد علي على الأسلوب التجريدي، حيث يعطي له السيادة المطلقة عبر كامل لوحاته ال52 التي تزيّن بها رواق "باية" لكن ذلك لا يمنع من حضور أساليب فنية كثيرة أخرى تمتزج مع التجريدي مشكّلة خليطا فنيا متناسقا يشعّ إبداعا إذ أنّ في كثير من تلك الأعمال نجد التجريدي ممتزجا مع السريالي والواقعي والساذج وغيرها من الأساليب الفنية المعروفة. علي كوسة هذا الفنان العصامي الموهوب الذي يملك قدرة التعبير البليغ يبدع في صمت بعيدا عن الأضواء الزائفة فهو حين يقرّر الظهور فإنّ ذلك لا يكون إلاّ بعد مشوار من البحث والإبداع، يتميّز بألوانه المائية التي يرش بها خلفية اللوحة بتقنية خاصة لينتقل بعدها إلى العمل على مساحة أنظف وأجف معتمدا على ريشة قلم خاصة تترجم بإخلاص أحاسيسه وأفكاره النبيلة. ومما سبق يتّضح أنّ هذا الفنان يهتم بخلفية اللوحة لأنّه يعتبرها أساس العمل وقاعدته التي تسمح له بالانطلاق وباختيار الألوان علما أنه يكرّر الأحمر بشكل ملفت في كلّ لوحاته تقريبا باعتباره لون المعاني والأفكار، فهو لون الثورة والدم ولون الحب والرغبة ولون الخطر وهو أيضا لون التحدي والنضال. في كلّ لوحات هذا الفنان المحترف تتداخل الخطوط والألوان وتتشابك عبرها الأفكار والشخوص والرموز والمعاني من أجل خدمة موضوع اللوحة، ومن أجمل ما عرض لوحة "استراحة" التي ترتاح فيها الشخوص وهي أطياف بشر وكأنّها تعود من رحلة شاقة يلفّها الأصفر والبرتقالي الذي يعطي بعدا حالما لهذه الوقفة. «مواجهة وجها لوجه" لوحة تجمع الشخوص وجها لوجه لتلتقي في فضاء تغطيه البقع ذات الألوان المختلفة خاصة من الأزرق، وهكذا تتزاحم الألوان وتتوالى اللوحات التي ترصد مشاهد اجتماعية مختلفة منها مثلا مظاهرات مكوّنة أساسا من النساء اللواتي يرفعن أيديهن مطالبات بالحقوق والحرية ويكاد هتافهن يسمع بعدما تمّ في اللوحة التركيز على شفاههن الناطقة بالغضب وعلى أيديهن الطويلة الممتدة للأعلى لافتاك الحقوق المسلوبة، أحيانا تتشابك الأيادي كدلالة على التلاحم والتضامن. لوحات أخرى يتواصل فيها التلاحم رغم اختلاف المواضيع منها لوحة "المهدي المنتظر" التي يظهر فيها الناس جالسين أرضا منتظرين الخلاص الذي يأتي مع المهدي المنتظر الذي يلوح من أعلى اللوحة ممتطيا جواده وهو دليل على انتظار الحلول الجاهزة دونما الاجتهاد في البحث عن الأفضل. لوحة "السلم في العالم" تبرز فيها سيدة بشعرها الممتد عبر اللون الأبيض تشع نورا لتحمل في فضاء ممتد كوكبا به حمامة رمز السلم الذي هو حاجة الإنسانية كلها، كما اعتمد الفنان أيضا على الأحمر والأخضر لتبدو الألوان وكأنها تجسد العلم الوطني. لوحات أخرى لا تقل جمالا منها "الشيخوخة" التي تصوّر مجموعة من الشيوخ يلتقون في جلسة حميمية بإحدى الساحات أثناء عودتهم من السوق حاملين معهم قففهم وهو مشهد يتكرّر يوميا في كلّ ساحات المدن، وفي "الرجل الذي يخاف العصافير" يبدو الرجل خائفا من طيران العصافير الصغيرة يلجأ إلى تموجات الألوان كي يحتمي بها وكأنه خائف من الحرية والانعتاق الذي لم يألف معانيها ولم يمارسها البتة. في "سفينة الحياة" يبدو الأمل أكثر جلاء، فأمام الطوفان الذي تفجّره الألوان العاتية يلجأ الإنسان إلى سفينة نوح لينقذ من خلالها ما يمكن إنقاذه كي يكمل رحلة الحياة من جديد وارتبطت لوحات أخرى بالتراث الثقافي والديني تبدو ألوانها أكثر غمقا تتجلى فيها القصور والمساجد وأساطير الفرسان والفاتحين الأوائل وكأنّهم يستعرضون أمجادهم للعامة من الناس الذين يشهدون بما أنجزوه. لا تغيب القيم الدينية والوطنية في المعرض، حيث تبرز لوحة "لا حول ولا قوة إلا بالله" شامخة منتصبة نحو السماء يردّد عبارتها الكون كلّه مسبّحا بعظمة الخالق القدير، تسود اللوحة الطمأنينة الروحية من خلال هدوء الألوان والإضاءة الخافتة المنبعثة من الصفر المذهب والبرتقالي، وتكاد نفس الأجواء تتكرّر في لوحة "بلادي عليك مني سلام" التي يجري في فضائها الأطفال حاملين المشاعل يتبعون مسارات العصافير التي لا تتجه إلاّ صوب الحرية. خصّص الفنان الكثير من اللوحات للموسيقى الجزائرية الأصيلة في "موسيقى أمازيغية"، "موسيقى شعبية" و«موسيقى بدوية" وغيرها من أنواع موسيقى التراث، وكذلك الحال مع الرقص الذي يختلف من منطقة لأخرى ليعكس تراث الفن الجزائري ناهيك عن استعمال الرموز التاريخية والثقافية خاصة الأمازيغية منها. معالم أخرى تبرز أصالة الجزائر منها مواسم الحرث والصيد والجني وغيرها مع استغلالها كرمز للحياة والأمل وكثيرا ما اتّخذ الفنان من الشجرة عنوانا للأمل باعتبارها الظل والحامي، كما ثمّن المعرض قيما أخرى منها الاستقلال الذي فكّ الإنسان من قيده وأعاده إلى آدميته والمرأة التي كانت الشخصية المحورية في المعرض فهي إضافة لكونها مخلوقا مضطهدا في مجتمعها هي أيضا رمز الخلاص إذ تضحي كعادتها من أجل الغير حتى ولو كانوا من مقربيها الظالمين لها ناهيك عن رمزيتها كعنصر للحياة والجمال. حاول هذا الفنان أن يزرع الأمل في عمق السواد واستخلاص الفرج من الألم عن طريق العدل وحب الجمال والخير والالتزام بقضايا المجتمع وفي محاولة حفظ الذاكرة صمام الأمان الذي يضمن الانطلاقة الصحيحة نحو الغد الجديد والأحسن، هكذا تبين أنّ الأمل قادر على زحزحة الألم واجتثاثه من جذوره. للتذكير، فإن علي كوسة من مواليد الخمسينيات ببومرداس يعرض منذ سنة 1980 ويعمل في ميدان الطيران.