يقول المثل العربي"رب صدفة خير من ألف ميعاد".. و هي المقولة التي أسقطناها على جماعة من الأجانب القادمين من القارتين الأمريكية و الأوروبية الذين التقيناهم صدفة بالمتحف المركزي للجيش بالجزائر العاصمة، أين تم الأخذ و العطاء فيما بيننا لنكتشف فيما بعد مدى عشقهم للجزائر. سنبين من خلال هذا الروبورتاج إحدى مفارقات الحياة منها التي تدفع في أغلب الأحيان البعض من الجزائريين إلى التذمر ليصل بهم الحد إلى شراء الموت بأموالهم بمبلغ مالي يصل إلى غاية 40 مليون سنيتم، لنكتشف كم أن هؤلاء أذلوا بحياتهم لكي لا تتعدى سنتيمات معدودات، وتارة نندهش من الأجانب الذين يقطعون البحار ليصلوا إلى الجزائر و اكتشاف ما لم يجدوه في البلدان الأخرى حسب ما أكده لنا الأجانب القادمين من أمريكا و كندا. إن القاسم المشترك الأكبر بين هاتين الفئتين هو صرف مبالغ مالية بغية اكتشاف ما وراء البحار، إلا أن أساس التناقض و الاختلاف فيما بينهما هو أن هؤلاء الأجانب أرادوا استكشاف ما تركناه في بلادنا، أما الفئة الثانية من الغافلين الذين وجدوا العدو وراءهم ليفروا إلى بحر الموت الذي أمامهم. هؤلاء استبدلوا العزة بالعيشة الضنك كنت في طريقي إلى مقر جريدتنا المتواجدة ب "رويسو" بالجزائر العاصمة، لأمر بساحة أول ماي التي أصبحت مهدا لأحداث "سعيد سامدي"، بغية أخذ سيارة الأجرة للذهاب إلى المكان المقصود، وبينما نحن نمشي على متن "الطاكسي" كنت تارة أستمع إلى حديث شخصين كانا جالسين على يميني، الأول حسب ما ظهر لي كان عمره يتراوح بين 35 إلى 40 سنة بينما الثاني كان عمره يتجاوز الأربعينات نظرا للتجاعيد و الانحناءات التي كانت ترتسم على وجهه. حديثهم لم يكن كالمعتاد حول كرة القدم التي أصبحت الشغل الشاغل لبال كل الجزائريين، و إنما كان حديثهم يتمحور حول "الحرقة" و هي أيضا إحدى المواضيع المصيرية الهامة لأنها " المستقبل " بالنسبة إليهم. حيث قال أحدهم للآخر و الذي كان يتوسطنا، أنه تم إعادته إلى التراب الوطني بعد أن اكتشف أمره الأمن، مضيفا أنه لن يكل أو يمل حتى يطفئ مبتغاه و هو الهروب من الوطن، الذي قال عنه "لم يستطع العيش فيه نتيجة الأوضاع الاجتماعية المهترئة"، و بينما هما يتحدثان حول طرق الهجرة إلى الخارج، قال الثاني أنه سوف يأخذ رحلة إلى تركيا، لأن هذا البلد تنقص فيه الرقابة و نسبة " الحرقة" تكون أكبر بالمقارنة مع الدول العربية التي أصبحت كقدر التي تغلي فيه الشعوب و الأمم، أو الدول الأوروبية التي تعمل وفق "فيزا شنقن" و التي أصبح أمرها مفضوح لدى أمن هذه الدول. بينما قال الثاني أنه يبذل كل ما في وسعه وكل ما يملك حتى و إن اضطر إلى بيع ممتلكاته الخاصة ليتخطى إلى الضفة الأخرى و التي يرونها في اعتقادهم أنها الجنة. و في هذا الصدد قال الأول للثاني أنه يملك لحد الآن 30 مليون سنتيم و ينقصه إلا 10 ملايين يتدبر أمرها خلال أقل من 3 أشهر حتى يكتمل العدد ال 40 مليون سنتيم، ليتمكن من العبور. و بينما هما يتحدثان حول أمور الحرقة و المبالغ التي يمكن صرفها من أجل شراء الموت، تبادرت في ذهني عدة تناقضات و أسئلة لم أجد مخرجا لها أمام فلسفة و منطق هؤلاء في الحياة، بالرغم من أن هؤلاء الذين يشتكون من المستوى المعيشي المتدني بالرغم من أنهم يستطيعون أن يتدبروا أمورهم للحصول على 10 ملايين سنتيم في أقل من 3 أشهر و الذي يعادل 3 ملايين سنتيم في الشهر الواحد، و هو مبلغ قد يخرج المواطن الجزائري من الأزمة المعيشية، فلماذا يتذمرون إذن من هذا الوطن الذي يجدون فيه كل شيء ليلقوا بأنفسهم إلى التهلكة علما أن الجزائر وفرت جميع الشروط و قامت بجميع الإجراءات لدعم فئة الشباب ماديا حتى تتمكن من امتصاص مشكل البطالة الذي لم يعد عائقا؟ و الشيء الثاني الذي دفعني إلى الحيرة أيضا أثناء حديثهما، لم يكن الموضوع العادي المتداول بين الشباب و المراهقين، بل هي فلسفة ذلك الشخص الثاني الذي قضى على نصف حياته بيده في بلاده دون أن يفعل أي شيء ليتحدث وبكل ثقة في النفس و جرأة عن مستقبله خارج البلاد، متناسيا أنه بقي له إلا 10 سنوات على الأكثر حتى يدخل من باب الشيخوخة، أو كما يقال بالمثل الشعبي الجزائري "ما بقى للما يحمى"! و بالمقابل فإن الذين هجروا تاركين وراءهم أموالهم و أولادهم و أولياءهم، إن لم نقل مستقبلهم، ليقفزوا في المجهول بجهالة منهم، أو أن البعض منهم يحب أن يجرب طعم "المعيشة الضنك" ليجد أن الأوان قد فات حتى يدرك بعد ذلك أن "فاقد الشيء لا يعطيه". هي ليست وجهات نظر شخصية بل هي آراء أشخاص حقيقية الذين تركوا العز و الدلال وراءهم ليصبحوا الأسياد في بلادهم " خماسين" في بلاد الناس. هو شاب مثل أي شاب جزائري كان يوما لا ينظر إلى الجزائر إلا من زاوية ضيقة، ليصاب بعد ذلك بالاحتقان الذي يدفعه إلى الهروب إلى الخارج، علما أنه يجهل كل الجهل بإجراءات دعم الشباب الذي أطلقتها الدولة ليقول دائما أن " الدولة ما دارت لنا والو "، إلى جانب كل هذا فإن هذا الشباب لم يكن ينقصه أي شيء بل كان حالته المادية تلامس الرفاهية، إلى جانب سيارته من نوع "رونو" التي كان يكسبها هنا و في الجزائر، إلا أن الجهل الذي يدمر بيوت العز، دفعه إلى بيع كل مغريات الحياة التي كانت بحوزته ليشتري بها "ميزيرية فرنسا" و التي تعني هذه الأخيرة، أنه لم يعد يكسب تلك السيارة ، أو عمل مستقر، أو حتى أوراق مضبوطة، فضلا عن العنصرية التي يعاني منها من قبل الفرنسيين. و الملفت للانتباه هو أنه أصبح يشتاق إلى كل مشاكل الجزائر التي تعد بمثابة الجنة أمام جحيم الدولة التي يقطن بها "فرنسا"، فبعد أن كان ينتقد الجزائر أصبح يدافع عنها، لأن قيمة الشيء لا نعرفها حتى نفقدها، ليكون الأوان بعدها قد فات. هي تلك الحياة المشتركة بين محمد، رفيق، كريم، مصطفى و غيرهم من الأشخاص الذين استبدلوا العزة في وطنهم بالمذلة. .. و هؤلاء أحبوها تاريخيا و جغرافيا كم من المفرح و المحرج في آن واحد أن يُطلعك الأجانب القاطعين كيلومترات، القادمين من مختلف القارات الأمريكية و الأوروبية، على الجوانب الإيجابية الكائنة في البلاد ليقولوا لك أن الجزائر بلد ساحر، لتشعر بالفخر و السعادة الآتيتان من مدح الأجانب لبلادنا، في ذات الحين تشعر بذلك الحرج منهم بسبب الأنباء و الإحصائيات حول موت شبابنا غرقا في طريقهم إلى الهجرة. لقد كانت إحدى تعابير هؤلاء الأجانب الآتين من وراء البحار تجاه الوطن، حيث قالت إحداهم و هي فرنسية الجنسية، أنها كانت تحب الجزائر و لا تزال لحد الآن و الدليل على ذلك أنها تأتي كل عام لقضاء العطلة الصيفية في إحدى شواطئ وهران و عين تيموشنت و الاستمتاع بغاباتها و مرافقها السياحية. بينما تدخلت أخرى و التي التقينا معها هي أيضا في المتحف المركزي للجيش، قائلة "أهوى كل ما يعلق بالجزائر تاريخيا و على هذا الأساس أتيت إلى هذا المتحف لأكتشف بعض الأمور و الحقائق التي لم أجدها هناك" في إشارة منها إلى الكتب و المراجع الفرنسية. بينما قالت ثالثتهم و هي كندية الأصل، أنها "لأول مرة ترى متحفا بهذا التنظيم و الترتيب و المضمون الثمين الذي يجمع كل تاريخ الجزائر في متحف أي من عصر ماسينيسيا و يوغرطا إلى غاية 1962 و هو يوم استقلال الجزائر". أما بالنسبة إلى آخر و هو فرنسي قاطن بالولايات المتحدةالأمريكية، و الذي أثار انتباهي بعد حديث دار بيننا حينما قال أن "الشباب الجزائري يريد الهجرة إلى الخارج و نحن الشيوخ نريد أن نستمتع بشمس الجزائر". و في مناسبة أخرى بينما كنا نتحدث و نتخلل أروقة المتحف المركزي للجيش، ليعلقوا تارة على بعض الصور و الأحداث التاريخية، و يندهشوا من بعض الممتلكات الخاصة بالرئيس الراحل هواري بومدين تارة أخرى، لتسقط أعين إحدى الأجنبيات عل صورة بوتفليقة و هو وزيرا سابقا للخارجية، لترتسم الابتسامة على وجهها قائلة، " بوتفليقة.. نعتبره الرجل الأكثر دلالا لدى شعبه".