تترتب عنه طبعا دولة فرنسية جزائرية يتجسم فيها ما كان يسمى "بالأمة التي في طريق التكون". وبمرور الوقت تصبح العلاقات التي تربط هذه الجزائر بالمغرب العربي أشبه بتلك التي تربط فرنسا اليوم بجدتها الأولى: الأمة اللاتينية، ولكانت سياسة الجزائر الخارجية مع الدول المتاخمة لها هي نفس سياسة الحاكم الفرنسي العام التي كان يمكن أن يسلكها مع هذه الدول، ولكانت سياستها الإسلامية الدينية هي أيضا نفس السياسة التي كان من الممكن أن يتبعها نفس الحاكم العام، ولاستمرت نفس الإجراءات أيضا التي كانت تتم بين الإدارة المالية للحاكم العام وبين المجلس الجزائري، ولبقيت نفس الافتتاحيات الصحفية التي كانت تنشر في عهد الفرنسيين في صحف وهران والجزائر الخ. إنّنا نتساءل اليوم: هل هذا مجرد افتراض؟ هل السياسة التي اتبعت وتتبع في الجزائر اليوم بالفعل تختلف عن تلك التي كنا نفترضها، والتي كان من الممكن أن تسلكها الجزائر بوجود جالية أوربية كبيرة؟ الجواب طبعا لا، إن السياستين لا تختلف إحداهما عن الأخرى سواء كان الفرنسيون موجودين في الجزائر أم لم يكونوا موجودين"؟. هذه الفقرة من مقال العروي لم أرد أن ألخصها وإنما ترجمتها للقارىء الجزائري وأنا أعرف ما ستكلف أعصابه من التوتر. إنّ افتراض العروي بناه على واقع غير صحيح بسبب بسيط وهو أنه لم يقرأ اتفاقيات ايفيان وإنما اكتفى بتصور هذه الاتفاقيات كما يريد ليبني عليها افتراضه المقصود. إن اتفاقيات ايفيان لا تمنح الفرنسيين نظاما قريبا "من الجنسية المزدوجة" كما زعم، بل هي تنص بالعكس على أن المستوطنين الفرنسيين في الجزائر تعطى لهم مهلة ثلاث سنوات لكي يختاروا بين الجنسية الجزائرية وبين البقاء على جنسيتهم الفرنسية، ولكنهم في هذه الحالة كما تقول الوثيقة حرفيا "لا يمكنهم التمتع بحقوق الجنسيتين معا، الفرنسية والجزائرية، وإذا هم اختاروا الجنسية الجزائرية فيجب أن يتم ذلك بناء على طلب منهم يتقدمون به في هذا الشأن". إذن كل الافتراض الذي تصوره العروي أساسا لقيام دولة فرنسية جزائرية بحكم قوة الجالية الفرنسية من جهة وبحكم تمتعها بالجنسية المزدوجة من ناحية أخرى هو أساس غير صحيح، وبالتالي فإن البناية التي أقامها على هذا الأساس هي نفسها بناية من ورق. ولكن مع هذا نجد عقدة الرجل لا تحل بهذه البساطة، إنّه بعد أن تصور البناية كلها مجرد تصور تبين له ولم لا أن هذا الافتراض واقع بالفعل؟ فانتهى إلى أنه ليس في حاجة إلى الافتراض لأن الواقع السياسي الذي سارت عليه الدولة الجزائرية بعد الاستقلال هو بالضبط نفس الواقع الذي افترضه في الأول والذي كان لا بد له من الجالية الفرنسية ومن تطبيق اتفاقيات ايفيان ليتحقق. وإذن فلا داعي للأسف يا أستاذ العروي لأنه يبدو عليك الأسف لذلك على رحيل المليون فرنسي في موجة من الذعر. إن الجزائريين الذين بقوا من بعدهم وحلوا محلهم قد فعلوا ببلادهم نفس ما كانت ستفعله الدولة "الفرنسية الجزائرية" لو تكونت، وبعبارة أخرى: الدولة الجزائرية لحما ودما، لا تختلف لا معنى ولا جسما عن الدولة الفرنسية، الجزائرية المزدوجة. ولنلخص هذا الواقع فيما يلي: انسلاخ الجزائر عن المغرب العربي كما انسلخت فرنسا عن أمتها اللاتينية، وطبعا الأستاذ العروي لا يعطينا التفاصيل والتواريخ والوقائع، هو يقرر حكم مبدأ فقط ثم يمضي بسلام، أما الجهود التي بذلتها الجزائر منذ الأمير عبد القادر إلى الأمير عبد المالك إلى نجم شمال إفريقيا إلى الحركات الوطنية قبل الثورة وأثناءها ثم كل الجهود التي بذلتها الجزائر المستقلة لبناء المغرب العربي حتى مع أنظمة متعفنة إيمانا منها بأن الأنظمة تمضي أما المغرب العربي فيبقى، والجهود التي بذلتها منذ 1969 في إصلاح ذات البين بين المغرب وموريتنيا والتي بذلتها معهما لتصفية الاستعمار الاسباني من الصحراء الغربية وضمان مستقبل شعبها بواسطة تقرير المصير كل هذه الجهود السياسية التي حاولت فيها الجزائر بدون رغبة مماثلة عند الطرف المقابل في الجناحين الشرقي والغربي، وخاصة وحدة المعركة لأنها أمتن وأصدق يرى الأستاذ العروي أنها صورة لما كان يمكن أن تقوم به دولة فرنسية جزائرية "نحو دول المغرب العربي". أو أن هذه الجهود عنده بذلتها الجزائر لا لتربط مصيرها بمصير المغرب العربي بل لتفك ارتباطها من ربقة هذا المغرب العربي.