جاءت زيارة المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل إلى الجزائر لتشكل محطة بارزة وهامة في العلاقات الجزائرية-الأمريكية، وخطوة من شأنها أن تكشف عن مدى ما تحظى به الجزائر من مكانة دولية مميزة على المستويين العربي والدوّلي وأن الجزائر تمثل الآن "عاصمة محورية" بخصوص قضايا ومستقبل منطقة الشرق الأوسط. فزيارة جورج ميتشل إلى الجزائر عكست في توقيتها ومضامينها ونتائجها دلالات عميقة تجاوزت حدود العلاقات الثنائية الجزائرية فالجزائر بدبلوماسيتها "النشطة" تارة و"الهادئة" تارة أخرى، ظلت تلتزم برؤية برغماتية تأخذ بعين الاعتبار والحسبان مقتضيات الواقع الدولي وما تقدمه من فرص وقيود للطرف العربي للتحرك وذلك مع الالتزام التام بالحد الأدنى للمطالب والحقوق المشروعة وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف، كشرط أساسي لأي سلام عادل وشامل لا يمكن التنازل عنه تحت أيّة ذرائع كانت ! فلا بأس أن نتوقف هنا عند أبعاد زيارة جورج ميتشل إلى الجزائر وإبراز مضامينها. 1- فمن حيث "التوقيت" جاءت الزيارة في اليوم الموالي لإعلان المجلس الدستوري عن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية والتي فاز بها بوتفليقة بأغلبية ساحقة، وهو ما يعكس ارتياح واشنطن لسير العملية الانتخابية ولنتائجها ولم تبد أية ملاحظات من شأنها المساس بمصداقية هذه الانتخابات. وذهب الناطق الرّسمي للخارجية الأمريكية ريتشارد أكور إلى التصريح أن واشنطن ترغب في "مواصلة العمل مع الرئيس بوتفليقة خلال عهدته الثالثة" وأنها "تريد العمل مع الرئيس بوتفليقة خلال مباشرته للإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وحول مشروع المصالحة الوطنية". ويعكس هذا التصريح الآفاق المستقبلية التي تنتظر العلاقات بين الجزائروواشنطن. فتوقيت زيارة ميتشل إلى الجزائر جاءت في ظرف مميز بالنسبة للجزائر وأعطت انطباعًا عامًا أن ليس لدى واشنطن ما تبديه بخصوص الانتخابات الرئاسية. 2- كما أن زيارة ميتشل بقدر ما جاءت لتكريس النظرة الجديدة للرئيس أوباما إلى مختلف الشؤون وقضايا العالم، فإنها حملت في طياتها اهتمامًا أمريكيًا "خاصا" بالجزائر وبتجربتها التاريخية الرائدة في معالجتها التناقضات العربية بعيدًا عن التحالفات العقيمة حيث كانت تسعى دومًا إلى وحدة الصف العربي واعتباره خطا أحمر. فالجزائر في مواقفها من التناقضات الفلسطينية-الفلسطينية لم تتحالف مع طرف ضد آخر، بل حاولت ببالغ جهدها توحيد الصف الفلسطيني ومن ورائه الصف العربي، فاكتسبت بذلك مواقف التقدير والاحترام من كل الأطراف الفلسطينية والعربية. فواشنطن تسعى لاستخدام ورقة الجزائر على الساحة الفلسطينية لإعطاء دعم للحلول التي ترغب في تجسيدها. 3- إن الزيارة من جهة أخرى، تعد مرحلة جديدة للعلاقات الجزائرية-الأمريكية التي اتصفت دومًا بالاستقرار والتعاون والاحترام المتبادل، بل إن واشنطن في أسوأ الظروف الأمنية التي مرت بها إثر هجومات 11 سبتمبر، وجدت في الجزائر خير شريك في مواجهة "الإرهاب". كما أن العلاقات الثنائية وفي مختلف المجالات عرفت تطورا مميزا في السنوات الأخيرة، وهو ما سيعطي فتصريحات جورج ميتشل حملت رسائل قوية من شأنها أن تعزز مسارات العلاقات الجزائرية - الأمريكية حيث أنها أكدت على ما يلي: 1- شكر الجزائر على دعمها الدائم من أجل تحقيق السلام في المنطقة. 2- أن العلاقات الجزائرية - الأمريكية كانت ومازالت قوية ومتينة. 3- الإعراب عن أمله في تحقيق أهداف مشتركة وخاصة تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط. 4- أن المحادثات مع الرئيس بوتفليقة كانت "مهمة وصريحة وكاملة" وارتبطت بكل قضايا المنطقة. 5- أن الجزائر عضو بارز في الجامعة العربية، وأن بوتفليقة يحظى بالتقدير والاحترام لقيمة نصائحه التي تخدم زيارته في المنطقة. 6- إن سياسة أوباما تعتمد على خيار الدولتين كحل سلمي شامل وعادل لقضية الشرق الأوسط. فتصريحات المبعوث الأمريكي الصريحة والضمنية وضعت العلاقات الجزائرية-الأمريكية أمام آفاق واعدة يمكن أن تحددها الأبعاد التالية: 1- البعد الأمني حيث سيستمر التعاون بين الجزائروواشنطن في مجال مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات والخبرات والتنسيق والتشاور. وسيكون لهذا البعد الأولوية مما سيعزز مكانة الجزائر في شبكة العلاقات الأمنية الدولية لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها. 2- البعد السياسي: فمع استمرار التشاور في القضايا المشتركة فإن واشنطن ترغب في مساعدة الجزائر لفك ألغام منطقة الشرق الأوسط. 3- البعد الاقتصادي: إن الولايات المتحدة ستكون حاضرة بشركاتها في مختلف مشاريع التنمية التي سطرتها الجزائر، وخاصة في السنوات الخمس القادمة. فزيارة المبعوث الأمريكي جورج ميتشل إلى الجزائر أعطت صورة إيجابية على مستوى التطور الذي عرفته العلاقات الجزائرية-الأمريكية المبنية على المصالح المشتركة، وبالأخص أن الجزائر باتت "محطة" أساسية لا غنًى عنها في نجاح أي سياسة إقليمية أو دولية في المنطقة. الأزهر محمد ماروك