لو جاز لي شخصيا أن أجتهد في الإجابة عن سؤال محدد يدور حول تعريف الوزارة، لقلت مباشرة وباختصار شديد، هي '' مشروع دائم ومتواصل، يسعى للمحافظة على فكرة ثابتة بأدوات متغيرة''، ولو طُلب مني التوضيح أكثر حول الثابت والمتغير في هذه المعادلة، لأضفت باختصار أيضا أن معالي الوزير الذي يمكن أن يوصف هنا وفق التعريف السالف بأنه '' رئيس مشروع''، يُعد من ضمن أبرز الأدوات المتغيرة في هذه المعادلة... كيف ذلك؟ هذا التعريف '' الشخصي''، قد يكون أقرب إلى الفهم وأشمل للمعنى عندما نوضّح اتجاه الحديث أكثر ، ونكتفي باسقاطه على وزارة الثقافة في أي بلد من العالم، وليس بالضرورة في الجزائر فقط، لأن الرسالة الثقافية تكاد تكون واحدة وإن اختلفت مفاتيحها، لذلك تتفق جميع بلدان العالم، أو على الأقل بلدان العالم المتقدم على المواصفات المطلوبة في تحديد شخصية الوزير الذي يتولى حقيبة الثقافة وتشترط أن يكون مثقفا أو ملما بحروف الثقافة حتى يكون أهلا للحفاظ على الموروث الثقافي للبلاد وتطويره، وهو مطلب قد يغيب في معايير تعيين وزراء آخرين، فنجد مثلا طبيبا على رأس وزارة الفلاحة أوالرياضة... في التجربة الفرنسية مثلا، وهي الأقرب إلينا بحكم التاريخ والجغرافيا، يمكن أن نقف على عينتين أو وزيرين للثقافة الفرنسية، كلاهما يمثل مشروعا ثقافيا قائما بذاته، لكنّهما يلتقيان لينصهرا في رؤية فرنسية متكاملة ومدروسة، تنتهي في الأخير لتكون مشروع الثقافة الفرنسية. الوزير الأول، وهو أندريه مارلو، تولى حقيبة الثقافة الفرنسية خلال سنوات 9591- 9691 بإصرار من الرئيس الفرنسي شارل ديغول، على الرغم من الإختلاف الفكري والإيديولوجي بين الرجلين، وعندما سئل ديغول عن المغامرة التي أقدم عليها، رد ببرودة كبيرة يقول '' نحن الآن بحاجة ماسة لوجوده، فهو من سيبني المجتمع الفرنسي، لأن الثقافة هي الأساس الصلب في عملية البناء''، ومباشرة بعد أن استوزر مارلو وأصبح وصيا على الثقافة الفرنسية، شرع في ترميم العديد من معالم باريس الشهيرة، وينسب إليه أنه أول من أصر على إعادة الرقابة على الأفلام تفاديا لأي انزلاق، وصاحب اليد الطولى في تأسيس '' الأزمنة الحديثة'' رفقة سارتر وسيمون دي بوفوار، كما ينسب إليه فضل تصدير الثقافة الفرنسية إلى الخارج عندما اعتمد سياسة المساعدات المالية التي تخصص للأعمال الفنية والثقافية التي تروج للجمهورية الفرنسية تاريخا وثقافة، ومن ذلك تمويل فيلم '' وداعا بونابرت'' للمخرج الراحل يوسف شاهين وعشرات آلاف الأعمال الأخرى التي كانت فرنسا '' الاستعمارية'' بحاجة إليها لتسويق صورتها إلى الخارج أو على الأقل إلى مستعمراتها السابقة كي لا تخطف منها في مرحلة ما بعد الحرب الكلاسيكية.. انتهت الحرب الكلاسيكية، وحلت محلها '' الحرب الثقافية'' التي تعد أكثر ملاءمة للعصر، وجاء وزير آخر للثقافة الفرنسية، برؤية مارلو نفسها، ولكن بمفاتيح أخرى، ونقصد بذلك الوزير الحالي فريدريك ميتران الذي لو سئل في أي محفل دولي أو طلب منه أن يقدم تعريفا مختصرا للثقافة لقال '' هي التراث الفرنسي''، والمقصود بذلك بطبيعة الحال هو التراث الفني والأدبي لفرنسا، بما في ذلك المكتبات والمتاحف والصور والخرائط وكذلك البرامج التلفزيونية والثروة الموسيقية الفرنسية. فريدريك ميتران، ومنذ أن تولى زمام الثقافة الفرنسية، وضع نصب عينيه مشروعا واحدا ومهمة واحدة هي حماية التراث الفرنسي بكل هذه المكونات من خطر عدو واحد هو العملاق الأمريكي '' غوغل'' الذي يمثل بالنسبة إليه '' وحشا'' يتقدم بخطى ثابتة لينفرد بمحتويات رقمية لمكتبات عالمية في أوربا، حتى أنه أعلنها جهرا في مرات سابقة يصف '' غوغل'' الأمريكي بأنه '' تسونامي''، وأقسم أمام مجتمعه أنه يقف حجر عثرة أمامه لمنعه من الاستحواذ على مفاتيح التراث الفرنسي ومن ذلك أصبحت هذه المسألة تتصدر أولويات وزير الثقافة الفرنسية فريدريك ميتران الذي جعل من هذه المهمة قضية وطنية، فأطلق فكرة تمويل الحكومة لمشروع رقمنة التراث الفكري والثقافي الفرنسي وإبعاده عن القطاع الخاص، وسرعان ما نجح الوزير الفرنسي في مشروعه واستطاع أن يفتك ميزانية أولية قدرها 057 مليون يورو مخصصة لرقمنة التراث الفني والأدبي الفرنسي، وأقنع ساركوزي بأن يقتطع هذا المبلغ من أصل 53 مليار يورو مخصصة لخطة ''القرض الكبير'' التي أطلقها مؤخرا لتمويل عدة قطاعات استراتيجية وتحفيز النمو. تقول الأخبار الواردة من هناك إن المبلغ الذي حصل عليه وزير الثقافة الفرنسي، سيكون مخصصا لمشاريع رقمنة المؤسسات الثقافية الكبرى مثل المكتبة الوطنية الفرنسية والمركز الوطني للسينما والأفلام والمعهد الوطني للسمعي البصري ومتاحف '' اللوفر''، '' أورسي''، و'' مركز بومبيدو''،و'' أوبرا باريس''.. ولهذه الأسباب بدأنا بالتأكيد على أن الوزارة مشروع ثابت والوزير هو رئيس مشروع متغير، وقارنوا إن شئتم بين أندريه مارلو وفريديريك ميتران لتتأكدوا من ذلك.