أخيرا، صدرت الأعمال الكاملة للدكتور عبد الله شريط، نشرتها وزارة الثقافة في سبع مجلدات، احتوت على كل أعماله الفكرية وكتاباته الفلسفية التي تناقش أهم قضايا الجزائر والأمة العربية. سواء كنت متفقا مع الرجل أم لا، خاصة إن كنت من أنصار طرح الأستاذ مصطفى الأشرف، فإنك تقف حتما لحظة للتمعن في المجهود الفكري الكبير الذي بذله الدكتور شريط، والذي أثمر عن مشروع فلسفي لا يقل شأنا عن مشاريع كبار المفكرين والفلاسفة العرب. وتكمن أهمية أعمال عبد الله الشريط الكاملة، في كونها تفتح نافذة فكرية على تاريخ الأفكار في الجزائر، كخطوة نحو كتابة محتملة للصراع الفكري والقضايا التي كانت تشغل بال المثقفين الجزائريين. بينما كنت أقرأ ما كتبه الدكتور شريط، فكرت في كيف تم اختزال فكره، ولسنوات طويلة، عند مسألة صراعه مع المفكر الراحل مصطفى الأشرف بخصوص قضية التعريب والمدرسة في الجزائر، رغم أن الرجل لا يستحق هذا الاختزال، فهو أسمى بكثير. وربما هذا الاختزال هو الذي جعله يتعرض للتهميش بشكل مطلق. همشه أنصار الأشرف من الفرانكفونيين بتهمة الولاء للعروبة والبعث والقوميين العرب. ثم همشه المعربون أنفسهم بعد أن تخلى عنه الرئيس هواري بومدين الذي اختار تصور الأشرف ووضع فيه ثقته لفترة وجيزة. كما تعرض الأشرف لنفس التهميش من قبل أنصار المثقفين المعربين، لكن العلاقة بين الرجلين بقيت طيبة للغاية، تقوم على علاقة المثقف بالمثقف، لا يحكمها سوى روح الاختلاف والنقاش الفكري. ويروي الدكتور شريط بعضا من تفاصيل هذه الواقعة التي جرت سنة ,1976 قائلا .... إن مصطفى الأشرف لما تولى وزارة التربية كتب مقالات ضد العربية وضد المعربين وضد المدرسة العربية، ونشرها بجريدة ''المجاهد'' الناطقة باللغة الفرنسية، فاستغرب (أي الدكتور شريط) لهذا الموقف النابع من مثقف وطني لا يشك في نزاهته ولا في وطنيته، فكتب ردا على الأشرف نشر بجريدة ''الشعب''، ودافع فيه عن المدرسة المُعربة في الجزائر. وبعد ذلك جرى سجال وتنافس بين الرجلين، إلى حد حدوث انقسام داخل المجتمع برمته، فوجد في المقاهي جماعة المفرنسين يقرؤون ما يكتبه الأشرف يجلسون في زاوية، وجماعة المعربين يقرؤون مقالات الدكتور شريط وهم جلوس في زاوية أخرى من المقهى. ولما تصاعد الموقف بين الطرفين، قصد الدكتور شريط وزير الإعلام آنذاك السيد رضا مالك ليطلب منه ترجمة هذه المقالات من الفرنسية إلى العربية والعكس بالعكس حتى تعمم الفائدة للطرفين، ولا تكون هناك قطيعة بينهما لأن القضية ليس فيها خصومة وإنما هو نقاش أفكار. أوجدت القضية -حسب ما يرويه الدكتور شريط فيما بعد- رد فعل عند المفرنسين، إلى حد أنهم أشاعوا عنه أنه هو الذي جاء بمصطلح ''حزب فرنسا''، وبأنه رجعي ضد العصرنة والتطور، ولم يراعوا ما كتبه ضد كل هذه الصفات الموجودة عند المثقفين المعربين أنفسهم. ويضيف الدكتور شريط ''لكن يظهر أن المفرنسين يحملون ضدي حقدا تاريخيا منذ أن كنت بتبسة لموقف عائلتنا الوطني من فرنسا الاستعمارية''. والحقيقة أن ما تركه الدكتور شريط يتجاوز بكثير مناظرته مع الأشرف، فالرجل صاحب مشروع فكري وفلسفي، لا يمكن بأي حال من الأحوال وضعه في بوتقة مناضرة فكرية واحدة، للحكم عليه، ثم نبذه وتهميشه. فالخطوة التي قامت بها وزارة الثقافة، التي أصدرت أعماله كاملة، سوف تفتح أعين المثقفين على مشروع فكري، وتعيد الاعتبار لهذا المفكر الكبير، بصفته فيلسوفا محاورا للفلسفات الكبرى، باحثا عن سعادة الإنسان، ومنظرا للديمقراطية، وقارئا نقديا لمشروع الحركة الوطنية الفكري... وكل محاولة لحصر فكره في مناضرة فكرية (رغم أن ضلالها ما تزال قائمة إلى اليوم) يعد اختزالا مقيتا لفكر جزائري عميق، يفتح النافذة على مصراعيها أمام المشككين في العقل المُعرب في الجزائر، وعلى قدرته على إيجاد مشروع فكري، قادر على وضع أسس مجتمع يعطي للثقافة والمثقفين مكانة لائقة، وبالتالي تجاوز ذلك التقسيم المُريع الذي يضع المفرنسين في خانة المثقفين، والمعربين في خانة رجال الدين المشعوذين والكسالى... فالأمر هنا يتعلق بالقدرة على استيعاب الفكر المختلف، حتى داخل المنظومة المُعربة.