ظهرت أخيرا في وسائل الإعلام العربية عدة مقالات تتحدث عن هجرة الأدمغة العربية نحو أوربا وأمريكا، وأول مقال أثار انتباهي هو مقال الكاتب والأكاديمي اللبناني ( مسعود ضاهر) الذي يحمل عنوان ( هجرة عربية متزايدة في العدد 816 / 0120-60-52 ) من مجلة العربي، وجاء في مقدمة مقاله (( إنه يوجد الآن أكثر من عشرين مليون عربي منتشرين في مختلف الدول الغربية وهي تعتبر اليد الناعمة في تلك البلدان )) ويعتقد أن سبب هجرة اليد الناعمة العربية يعود إلى فشل الأنظمة العربية في إيجاد حلول علمية طويلة الأمد للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية العربية . وأصبحت الكثير من المجتمعات العربية عرضة للتفجير الداخلي عبر العصبيات الطائفية والقبلية القائمة في أكثر من الدول العربية، خاصة أن شرائح سكانية كبيرة في الوطن العربي تعيش تحت خط الفقر مع ارتفاع مخيف في نسبة البطالة والأمية، لهذا لم يبق أمام أعداد كبيرة من الشباب العربي المثقف سوى خيار وحيد هو الهجرة إلى الخارج والاستقرار هناك، ولتمتلك أغلبية الدول العربية تدابير ملموسة للحد من هجرة الشباب والأدمغة والنخب الثقافية والمهنية المتميزة ورغم ما تستنزفه هذه الهجرة من إمكانات الدول العربية فإنها عاجزة تماما عن إعادة هؤلاء إلى مواطنهم الأصلية رغم المحاولات من بعض الهيئات غير الرسمية العربية كمحاولة قطر لجمع الأدمغة العربية المهاجرة وهي تعتبر من الناحية النظرية أول محاولة جادة لاستقطاب الأدمغة العربية والحد من هجرتها لكني لا أعتقد أن ذلك ممكننا لسبب بسيط هو أن دولة قطر لاتستطيع القيام بذلك لخلافها مع بعض الدول العربية وقلّة الإمكانات التي يجب توفيرها لهذا العمل الجبار رغم النية الصادقة من طرف حرم أمير قطر الشيخة موزة بنت ناصر المسند لجمع الأدمغة العربية في قطر تحت رعاية مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع الذي أنشأته الشيخة موزة عام 5991 وقد سبقت إحدى لجان المؤتمر الإسلامي الذي انعقد عام 3791 حيث تقدمت باكستان بفكرة إنشاء مؤسسة إسلامية علمية على غرار مؤسسة (فورد) حجما وتمويلا برأسمال قدره 0001 مليون دولار وبعد ثماني سنوات من التمحيص والتدقيق والدراسة جاءت البشرى بالإعلان عن مولدها، لكن بتعديل بسيط تقهقر الرقم الموعود من 0001 مليون دولار إلى 50 مليون دولار و إذا علمنا أن الدول العربية خسرت مبلغ قدره 51 مليار دولار بسبب هجرة الأدمغة العربية، أكيد أن القارئ سيضحك على سذاجة العرب أما الخسائر الاجتماعية نتيجة هذه الظاهرة فتقدر ب 002 مليار دولار أكيد انك ضحكت بعد هذه الأرقام وقد يصيبك الذهول عندما تعرف بأن شركة سوناطراك الجزائرية تخلّت ما بين 1002 و 9002 عن نحو 0001 خبير في مجالات تخصصها وتكوينهم وهم الآن في الشركات البترولية العملاقة في الخارج وها هي سوناطراك تجد نفسها مضطرة للجوء إلى المناولة الأجنبية بمبالغ خيالية. أكيد أن الكثير منكم لا يصدق ما أقول وتشير دراسة لبرنامج الأممالمتحدة للتنمية إلى أنه بين 8991 و 0002 هاجر أكثر من 51 ألف طبيب عربي إلى خارج العالم العربي كما يقيم في الغرب مئات العلماء العرب المعروفين في مختلف المجالات، ففي بريطانيا مثلا هناك حوالي 43 % من مجموع الأطباء العاملين فيها في حين هاجر العراق ما بين 1991 و 8991 ، 0573 عالما في مختلف المجالات نتيجة النظام الاستبدادي و الديكتاتوري الذي كان سائدا في ذلك الوقت، وظروف الحصار الدولي الذي سببه تهور الرئيس العراقي وطيشه، كما تعتبر مصر أكبر الخاسرين من هذه الهجرة حيث تشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء أنّ عدد الذين غادروا مصر يصل إلى 42 ألف عالم و خبير في شتى الميادين، وأعتقد أن سبب هذه الهجرة يعود بالدرجة الأولى إلى غياب مناخ الديمقراطية والتداول على السلطة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها مصر في ظل النظام القائم، أما لبنان فقد شهد في السنوات القليلة الماضية نزيفا شهريا تراوح بين عشرة إلى اثتني عشر ألف شاب وشابة من ذوي الثقافة الأكاديمية والمهن الحرة هاجروا إلى الخارج، خاصة إلى الدول الأوربية والأمريكية والعربية مما أدى إلى أزمة حادة في المجتمع اللبناني المعاصر. ويرى الدكتور محمد عبد السلام (( أن هناك ثلاثة أسباب لتخلف العرب، أولها افتقارنا إلى خطة قومية، ملتزمة وحاسمة تسعى إلى اكتساب المعرفة والتوسع في مجالاتها كما حصل في اليابان، والسبب الثاني هو إبعاد العلماء عن مشاريعهم، فكافة المشاريع العلمية في الوطن العربي يديرها العلماء أنفسهم، ولا يشرفون عليها، كما أننا لم نقم بأي جهد يذكر من أجل استدعاء الباحثين العلميين الممتازين أو الإبقاء عليهم، ليشكل تواجدهم النواة الأولى في جامعاتنا ومعاهد أبحاثنا. أما ثالث هذه الأسباب فهو عدم وجود خطة واضحة للاعتماد على النفس في مجال التقنية، وافتقارنا إلى خطة للتطوير العلمي، فليست هناك حتى الآن سياسة علمية واضحة في هذا المضمار.)) إن الإنجازات العلمية تعتمد -أساسا- على النخبة المتعلمة وعلى الأفراد المتفوقين، وما يجب أن نفعله الآن هو أن نبحث عن هؤلاء ونجلبهم بكافة الوسائل والإغراءات بالشروط الميسرة المقبولة من جانبهم لكي نحتفظ بهم ونبقيهم بين ظهرانينا، هذا ما يجب أن نوفره الآن لنصحو من جديد. وخاصة أنّه تقلصت في السنوات الأخيرة أعداد المهاجرين بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعرفها الغرب وأصبحت أكثر صعوبة في هذه السنة بالذات لذلك يجب علينا إعادة النظر في خططنا من الناحية السياسية والتنمية البشرية والاقتصادية ونولّي أهمية قصوى لبناء الإنسان المبدع لأنه الرأسمال الأكبر ، وهو هدف التنمية وغاياتها. في هذه الحالة يمكن أن نسترجع الثقة المفقودة بين العالم والسياسي منذ سنوات، والأغلبية الساحقة من ذوي الكفاءة العلمية من الشباب العربي لا تثق بالمؤسسات الثقافية العربية التي ترعى شؤون الثقافة والإبداع الثقافي والفني والبحث العلمي في الدول العربية كما يقول مسعود ضاهر. فمن غير المعقول أن سدت الأمة التي صارت الكتب في إحدى عواصمها مجرى النهر وجسرا للعابرين واستوعبت فلسفات الدنيا وكل ما أنتج الفكر الإنساني إلى عهدها وصقلته ونشرته على العالمين، وأن يُسدل الليل عليها صدوفه وهي لا تعي من الوحي الذي قامت به شيئا يُذكر ولا تعي من ثمار الفكر العالمي إشارة تجدي، في الأخير أقول بأن مستقبل العالم العربي مرتبط بمستقبل شبابه فهو يتمتع بالهمة والحيوية للإنقاذ الوطني وندعو الشباب أن يصبحوا مثل الشعب الألماني الذي لديه إيمان عميق و فكرة ثابتة في رأسه و هو تغليب الواجب على الحق، فالألماني يقول لنفسه ماذا قدمت لألمانيا ولا يقول ماذا أعطتني ألمانيا ؟ يقدم خدمة الوطن ووقت العمل و العلم على باقي الأمور، لهذه الأسباب تعد ألمانيا في طليعة الدول المتقدمة اقتصاديا و اجتماعيا بعد أن كانت مدمرة بالكامل بعد الحرب العالمية الثانية... فلنثق بأنفسنا و علمائنا وبوطننا ونعزز إيماننا به ونفكر بعقلية تغليب الواجب على الحق حتى نستعيد مكاننا بين الكبار كما كنا في الماضي. وكما قال الباحث والمفكر محمود عبد الفضيل عن هذه اليد الناعمة المهاجرة (( المرء قد يكون صاحب علم و جهد في بلاد الغير ، أما أن يكون صاحب قرار و نظرة علمية إلى المستقبل ، فهذا ليس ممكنا إلا في وطنه )) .