هذه قصّتي .. سأحكيها لكم .. سأكتبها .. لأنّني لا أريدكم أن تكفّوا عن النّضال، ولا أريد لليأس والأسى والاحتلال أن يتمكّن من عزيمتكم أو يتوهّم أنّه قادرٌ على النّيل من حقّكم في الحرّيّة … فبالقليل الذي نملك يمكننا أن نشقّ لنور الفجر السّبيل .. فاقرؤوا قصّتي … بعد تفكير وتخطيط حسمت أمري، وأدركت تمامًا مثل كلّ الشّهداء والأسرى والمناضلين الذين سبقوني أنّ الاحتلال لا يعرف إلاّ لغة المقاومة، ولكي أسير في دربها كان عليّ أن أحصل على سلاح فجمعت بعد فترة من الزّمن (1300) دينارا أردنيّا أي ما يعادل 1800 دولارا أمريكيّا ممّا مكنني من شراء بندقيّة من نوع (إم 1) أمريكيّة الصّنع تعود إلى زمن الحرب العالميّة الثّانية، بالإضافة إلى 350 رصاصة، وسرعان ما بدأت بالتّمرّن على استخدامها حتّى أصبحت محترفًا بل وقادرًا على إصابة الأهداف بدقّة حتى تلك المتحرّكة منها؛ كذبابة مثلًا! فجر يوم الاثنين الموافق للثّالث من شهر آذار عام 2002 كان يومي الموعود؛ استيقظت باكرًا وتوضّأت استعدادًا للصّلاة وما إن أنهيتها حتّى حملت مصحفي معي وارتديت لباسي العسكري وحملت بندقيّتي و70 من الرّصاص الذي أملك وغادرت بيتي متّجهًا إلى جبل يسمّى ب (عيون الحرميّة) وهو جبل يقع بين مدينتي رام الله ونابلس، كنتُ قد حسمت أمري في تلك اللّحظة فإمّا أن أعود إلى هذا البيت شهيدًا محمولًا على الأعناق ومحاطًا بالزّغاريد وإمّا أن أعود أسيرًا في قلبه يصدح حلم الشّهادة ويرفرف. اخترت موقعًا استراتيجيّا أسفل شجرة زيتون وتحصّنت ببعض الصّخور المحيطة بها وبدأت بمراقبة الحاجز العسكريّ لمدّة تقارب السّاعتين، كانت المسافة التي تفصل بيني وبين الهوائيّ في ذلك الموقع حوالي 120 مترا، وعندما دقّت السّاعة السّادسة صباحا أطلقت رصاصتي الأولى باتّجاه أحد الجنود فسقط على الأرض من فوره بعد أن استقرّت في رأسه، لحظات قليلة وعلا هرج ومرج بين الجنود لكنّني لم أمنحهم الكثير من الوقت ليعوا ما حصل للتّوّ فقد كانت رصاصتي الثّانية في طريقها إلى قلب الجنديّ الثّاني .. فالثّالث، خرج جنديّان آخران بعدها بثوان فلقيا مصير السّابقين الثّلاثة، أصبح العدد الآن خمسة .. ثم سمعت صوت جنديّ سادس كان لا يزال قابعًا في الغرفة والخوف يتملّكه وهو يصرخ وما إن أخرج رأسه دون تفكير حتّى استقرّت رصاصتي فيه أيضًا، وبرباطة جأش وتؤدة بقيت مكاني أترقّب ما سيحدث فرأيت سيّارة مدنيّة فيها مستوطنان راحا يتفقّدان الموقع بجزع وتخبّط، كانا هدفين سهلين فأطلقت الرّصاص صوبهما فارتفع العدد إلى ثمانية. كانت قدماي ثابتتان كمسمارين حادّين، فكلّ رصاصة كانت تغادر بندقيّتي كانت تصطحب معها جنديّا إلى مستقرّه الأخير، وعلى الرّغم من أنّها المرّة الأولى التي أطلق فيها النّار على أهداف حيّة فإنّني كنتُ ثابتًا كما لو أنّني أمارس ذلك منذ سنوات، لم أكن بحاجة لأعرف أنّ تلك هي المواجهة بين الحقّ في الأرض .. حقّنا، والباطل في المحتلّ … احتلالهم، كلّ شيء كان جليّا كما الشّمس التي قاربت على السّطوع .. لم أكن قد انتهيت بعد فما زال بحوزتي 62 رصاصة، وبعدها بقليل أقبلت سيّارة عسكريّة بُغية تبديل طاقم الحراسة وما إن رأى الجنود فيها الجثث الملقاة على الأرض في كلّ مكان حتى جُنّوا وراحوا يطلقون النّار بعشوائيّة وخوف.. كانوا أهدافًا سهلة بالنّسبة لي، وتلتهم شاحنة يقودها عربيّ وبصحبته مستوطنان اثنان فأطلقت الرّصاص عليهما وتركت السّائق، ثمّ ظهرت سيّارة مدنيّة أخرى تقودها مستوطنة بصحبة أولادها ورغم أنّهم كانوا بمتناول اليد وكنت قادرًا على إلحاقهم بمن سبقوهم فإنّني أشرت لها بيدي أن تغادر وقلت لها بالعبريّة: (أنا لست بقاتل .. انصرفي مع أولادك) في تمام السّاعة السّابعة والنّصف من نهار ذلك اليوم كنت قد أفرغت 26 طلقة من بندقيّتي والكثير من القتلى جنودًا ومستوطنين فغادرت الجبل متسلّلًا من (جلجوليّة) نحو (سلواد) متّجهًا نحو بيتي وكنت متعبًا جدّا فاغتسلت واستغرقت في النّوم دون أن أعبأ بمسألة مطاردتي والإمساك بي فقد كانت الطّريق وعرة وملأى بالأشجار والصّخور، وحين استيقظت كانت الأنباء عن العمليّة تملأ وسائل الإعلام ومحطّات التّلفزة؛ بعضها كان يتحدّث عن 11 قتيلًا و9 إصابات و26 رصاصة أُطلقت باتّجاههم. ولا بدّ من التّذكير هنا إلى أنّ الاحتلال يعتمد في حربه معنا على الجانب النّفسي أكثر بكثير من اعتماده على العتاد والجانب العسكري، بل إنّه يُخفي ضعفه وجبنه خلف واجهة الحرب النّفسية؛ فخمسة قتلى غالبًا ما تعني خمسة عشر … وهكذا … وعلى الفور بدأ الاحتلال حملة اعتقالات في سلواد، وشرع محلّلوه بضرب التّكهنّات ووضع الاحتمالات والتّحقيق حول ما حدث، بعضهم قال إنّ منفّذ العمليّة رجل كبير في العمر ويملك بندقيّة تعود إلى زمن الحرب العالميّة الثّانية وأنّه متمرّس على القنص، وبعضهم الآخر ذهب إلى أنّ المنفّذ شيشاني نسبةً إلى نوع البندقيّة التي حملها الشّيشان فترة الحرب العالميّة الثّانية… والكثير من الرّوايات والقصص المضحكة تداولوها حينها. وفي خضم حملات الاعتقالات العشوائية التي قام بها الاحتلال اعتقلوني لاحقًا وأفرجوا عنّي سريعًا لأنهم استبعدوا أن أكون المنفّذ خاصّة بعد أن رأوني شابّا في الثّانية والعشرين من العمر، مرّت الكثير من الأحداث والأيّام على تلك العمليّة، وبعد قرابة العامين والنّصف وصلني تبليغ بكوني مطلوبًا من قِبل جيش الاحتلال لكنّي لم أذهب فداهموا بيتي واعتقلوني وحقّقوا معي لخمسة وسبعين يومًا، علمت بعدها أنّهم كانوا قد اختبروا بصمات الشّظايا وطابقوها مع بصماتي ولمّا كانت النّتيجة إيجابيّة أعلنوا الإمساك بمنفّذ عمليّة عيون الحراميّة، أذكر أنّ أحد ضبّاطهم أدّى لي التّحيّة العسكريّة حين رآني وعرف تفاصيل العمليّة! نزل الخبر كالصّاعقة على سلواد كلّها، وساءت بعد اعتقالي حالة والدتي وجدّتي الصّحّية، ولأنّ الحرب خدعة أخبرت الاحتلال بأنّني أُخفي سلاحًا في بيتي فاصطحبوني لاستخراجه، لكنّ تلك لم تكن سوى حيلة لرؤية والدتي ومعانقتها ولو لثوان قليلة وسريعًا أعادوني إلى الزّنزانة، ثم بدأت رحلة المحاكمة الشّكلية الهزليّة التي استمرّت لثلاثين جلسة انتهت بإصدار الحكم عليّ بأحد عشر مؤبّدًا، كان ذلك في محكمة عوفر العسكرية قبل نقلي إلى سجن إيشل المركزي ووضعي في قسم العزل رقم 4 مع الأسير مروان البرغوثي، لن أنسى ما حييت كيف استقبلني البرغوثي والعتيبي بالتّرحيب والتشجيع، ولأنّني كنتُ متعبًا للغاية استغرقت في نوم عميق حلمت خلاله بالكثير من الأحلام المتضاربة بعضها متعب ومرهق وبعضها جميل كوجه خطيبتي. في اليوم التّالي جلست مطوّلًا مع نفسي، كنتُ مشتاقًا إلى سلواد وسمائها وهوائها وعزّ عليّ أنّي لن أراها مجددًا، ثمّ فكّرت بخطيبتي وآلمني ما حلّ بها … إذ كان يجب عليها الآن أن تكون سعيدة تحضر لزفافها كما كلّ الفتيات .. فقرّرت أن أفسخ خطوبتي وظنّي أنّي اخترت لها الأفضل لئلاّ أكون أنانيّا وأحرمها من حقّها في الارتباط، وهذا ما كان .. هنالك الكثير من الوقت في المعتقل ويمكن استثماره في الكثير من الأشياء وشعب كشعبنا لن يستسلم حتّى خلف القضبان ولو بأبسط الوسائل، حيث أنّي أُمضي الوقت في القراءة والكتابة وممارسة الرّياضة، وأنا الآن بصدد إنهاء دراسة مفصّلة عن الأسرى، ليس هذا وحسب بل إنّني شرعت في حفظ القرآن وتلاوته إذ نتسابق جميعًا أنا وزملائي الأسرى على هذا خاصّة في شهر رمضان المبارك. ورغم أنّ المكوث في الأسر أمر محزن لما فيه من حنين للأهل والأحبّة ولوعة فراقهم فإنّني أعلم أنّ ما وضعني هنا يستحقّ ذلك، فأنا فلسطينيّ الهويّة أوّلًا وأنتمي إلى فتح النّضال والبطولة لا المساومات والمفاوضات .. هذا ما تربّيت عليه .. وهذا ما قاومت به .. اسمي ثائر كايد قدورة حماد ولدت عام 1980 ولُقّبت بقناص عيون الحراميّة، بندقيّتي ليست للأفراح ولا للاحتفالات بل هي لإرداء الأعداء، فقد قتلت عشرين من أصل ستّ وعشرين طلقة، غنّت لي سلواد فقالت : (ودّينا واحد قنّاص ع عيون الحراميّة … وسطّحهم بالرّصاص والبارودة الأمريكيّة..) وهذه قصّتي التي لم تنته بعد .. فمع كل ّيوم يولد ثائر، ومع كلّ جريمة يصعد كايد، ليظلّ الشّعب الفلسطيني حمّادًا لربّ الكون … مخلصًا لوطنه … لفلسطين.