هي قلب أفريقيا المحطم، وسيبقى محطما ما دام جيرانها طامعين في ثرواتها، وهم حكامها الذين تتضخم ثرواتهم في بنوك الخارج ويميزون أبناء قبائلهم على غيرهم، والشركات متعددة الجنسيات تريد استمرار الفوضى لتسهيل نهب ثرواتها النفيسة، ومشكلة الهوتو الفارين من رواندا المجاورة بلا حل في شرق الكونغو، وبقي الجنرال لوران نكوندا ورفاقه يتذرعون بوجودهم لمواصلة تمردهم ولم يحصلوا على ما يضمن عدمتقديمهم للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.الكونغو الديمقراطية دولة مترامية الأطراف، مساحتها تعادل مساحة أوروبا الغربية تقريبا، حباها الله بثروات هائلة فوق الأرض وتحتها: زراعة ومياه وفيرة وغابات شاسعة ومعادن نفيسة مثل الذهب والألماس الذي يمثل 30%من الاحتياطي العالمي والكولتان الذي يعادل 70% من احتياطي العالم ويستخدم في صنع الهواتف المحمولة والنحاس واليورانيم والبوكسيت والكوبالت. ومع ذلك يعيش 75% من شعبها تحت خط الفقر بمعدل دولار واحد للفرد يوميا، ويموت 1200 منهم في اليوم لعدم كفاية الرعاية الصحية الأساسية. كما أنها واحدة من 11 دولة فقط في العالم ترتفع فيها نسبة الوفيات بين الأطفال قبل سن الخامسة إلى 20%، بينما المعدل في الدول المتقدمة 0.6%.الصراعات القبلية وأطماع بعض دول الجوار وخلافاتها مع الكونغو هي التي أشعلت حربا تورطت فيها ست من دول الجوار بين عامي 1996 و2003. فقد سلحت رواندا وأوغندا المتمردين ودربتاهم ودفعتاهم للزحف إلى كينشاسا للإطاحة بالرئيس موبوتو سيسيسيكو عام 1996 بعدما يئست رواندا بالذات من قدرته على إخراج المسلحين الهوتو الروانديين من شرق الكونغو حيث فروا عقب استيلاء التوتسي على السلطة في كيغالي عام 1994 بعد مذابح رواندا الجماعية التى راح ضحيتها 800 ألف من التوتسي والهوتو المعتدلين على أيديهم، وما زالوا يشنون الهجمات على أهداف داخل رواندا انطلاقا من شرق الكونغو من وقت لآخر. جذور الصراع ذهب موبوتو منفيا بكل مفاسده وسيئاته وجاء لوران كابيلا دون أن يتغير شيء في الأوضاع المتردية. وإن كان الأول سرق ما قدره البعض بنحو ثلاثة مليارات دولار ووضعها في حساباته الخارجية تاركا الغالبية العظمى من الشعب يتضورون جوعا، فإن كابيلا نقل خزانة البنك المركزي إلى بيته لينفق منها على أنصاره في الداخل والخارج ولم ينجح في إخراج المسلحين الهوتو الروانديين من شرق بلاده، بل تحالف معهم فتحالفت رواندا مع أوغندا وغزت المنطقة عام 1998 للقضاء على المتمردين.وعلى الفور استعان كابيلا بقوات من أنغولا وزيمبابوي وناميبيا للوقوف مع قواته. استمرت الحرب الأفريقية الكبرى حتى العام 2003 دون أن يتمكن أي طرف من حسم المعركة لصالحه أو تحقيق أهدافه كاملة، اللهم إلا بقاء كابيلا في السلطة حتى اغتاله أحد حراسه عام 2001.وتولى نجله جوزيف الحكم وعمل على تحقيق السلام حتى تمكن مع أطراف إقليمية ودولية من توقيع اتفاق سلام عام 2003 ينهي الحرب الكبرى وتنسحب بمقتضاه الدول المتورطة من الأراضي الكونغولية بعد خراب ودمار ونهب لثروات البلاد، لدرجة أن كابيلا الأب منح مناجم ألماس وذهب لجيوش الدول الداعمة له عسكريا (زيمبابوى وأنغولا وناميبيا) لإغرائها بالبقاء للدفاع عنه في مواجهة رواندا وأوغندا وحلفائهما في الداخل.ورغم انسحاب الدول الأجنبية لم تتوقف الحرب الأهلية وإن انحصرت في شرق البلاد، ولم يستطع 17 ألف جندي تابعين للأمم المتحدة السيطرة على الوضع لأنه ببساطة ليس هناك سلام يعملون على حفظه.في مواجهة هذا الوضع، لم يستطع بعض قادة الجيش الكونغولي من أصل توتسي أن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون أبناء عرقيتهم يتعرضون للقتل يوميا بأيدي المسلحين الهوتو، فانشقوا على الجيش الحكومي وكوّنوا مليشياتهم الخاصة للدفاع عنهم بدعم من رواندا وأوغندا وفي مقدمتهم الجنرال نكوندا. ومن هنا بدأت مشكلة التمرد الحالي في الشرق وتعقدت الأمور وفشل أكثر من اتفاق سلام في حلها. السلام المراوغ السلام لا بد أن يراوغ في بلد به من الغابات ما لم تطأه قدم إنسان حتى الآن، ويتكون شعبه من نحو 250 مجموعة عرقية وقبلية دائمة الصراع على النفوذ والثروة.. إذا تولى الحكم فرد من إحدى قبائلها سرعان ما ينسى أنه رئيس للجميع ويسارع إلى إحاطة نفسه بأبناء قبيلته بمنحهم المناصب العليا الإدارية والسياسية لضمان ولائهم وبقائه في الحكم، وهي ظاهرة ملحوظة في أفريقيا كلها.. ولأن ذلك يكون على حساب حقوق قبائل أخرى فإنها تهب لاستعادة ما سلب منها عند أول فرصة وتطيح بالحاكم.وبذلك تبقى البلاد في حالة قلق وصراع دائمين لا يتركان وقتا ولا مالا للإنفاق على التنمية، وتظل الشعوب تقضي معظم الوقت في البحث عن لقمة العيش ولا تجد وقتا للتفكير في السياسة أو الحكم, وهي نظرية يؤمن بها كثير من الحكام في العالم الثالث. كما أنه لا بد أن يظل السلام مراوغا في بلد مليء بالثروات النفيسة والحكام ذوي النفوس الضعيفة، ما يغري الشركات متعددة الجنسيات باستخدام كل وسيلة ممكنة للإبقاء على حالة الفوضى القائمة لتسهيل الحصول على هذه الثروات بأبخس ثمن عبر تقديم الرشا والعمولات للمسؤولين بعيدا عن عيون سلطة مركزية قوية تخضع لرقابة برلمانية تقيد تصرفاتها. ويقدر البعض ثمن ما تم تهريبه حتى العام 2000 فقط من الألماس بنحو 60 مليار دولار, فما بالك بمعادن إستراتيجية مثل اليورانيوم الذي تحتاج إليه الدول الصناعية في صنع أسلحة نووية وتشغيل محطات الطاقة. الجنة تتحول إلى جحيم! وطالما انحصرت المشكلة الآن في شرق الكونغو حيث تم توقيع اتفاقين للسلام عامي 2007 و2008 ولم يتم تنفيذهما بين الحكومة والجنرال نكوندا، فإن الأمر يتطلب الحديث عن الأوضاع هناك بشيء من التفصيل لتوضيح الصورة أكثر.فشرق الكونغو تحول من جنة فيحاء تجري عبرها الأنهار وتتخللها البحيرات وسفوح الجبال الخلابة، إلى جحيم تتطاير في سمائه قذائف اللهب وتستعر على أرضه النيران، فيتساقط البشر الأبرياء صرعى وهم يحاولون النجاة ومعهم أندر فصائل الغوريلا التي لم يبق على ظهر الأرض منها سوى 200 فقط.ولم يتمكن الجنود الأمميون من توفير الحماية الكاملة لهم لأن المتمردين لهم اليد العليا بفضل معرفتهم الجيدة بطبيعة الأرض وإجادتهم أسلوب حرب العصابات، ولضعف الروح المعنوية والخبرة العسكرية لدى القوات الحكومية التي سرعان ما يفر أفرادها من الساحة بلا قتال بمجرد علمهم بقدوم المتمردين.خمسة ملايين إنسان لقوا حتفهم في حرب الكونغو منذ اندلاعها عام 1996 بسبب القتال وما ترتب عليه من جوع ومرض وتشرد. وبلغ عدد المشردين في الشرق وحده نحو مليون بائس، كثيرون منهم في مدينة غوما التي هدد نكوندا باقتحامها وتستميت القوات الدولية في الدفاع عنها واضطرت لاستخدام المروحيات لردهم، الأمر الذي جعل منها عدوا وهدفا لمتمردي نكوندا الذي اتهمها بالانحياز إلى القوات الحكومية, لذلك فإن الوضع مرشح للأسوأ. أحدث جولات المعارك بدأت في أغسطس/آب 2008 عندما أعلن الجنرال نكوندا انسحابه من اتفاقية السلام وأن هدفه لم يعد فقط حماية التوتسي وإنما تحرير كل الكونغو وإسقاط نظام حكم جوزيف كابيلا الذي تم انتخابه في اقتراع مباشر من الشعب عام 2006.وكان كابيلا قد جرد نكوندا من رتبته العسكرية واعتبره ارهابيا واتهمه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما صدر أمر توقيف دولي لنكوندا عام 2004 بتهمة ارتكاب جرائم حرب أثناء استيلاء قواته على مدينة بوكافو عاصمة إقليم كيفو الجنوبي ولم يتم تنفيذه. مبررات نكوندا برر نكوندا نقضه اتفاق السلام بما وصفه بدعم القوات الحكومية لمليشيات الهوتو الروانديين ضد أبناء التوتسي بدلا من العمل على نزع أسلحتهم وفقا لاتفاق السلام، ولذلك لا يستطيع إلقاء سلاحه قبل نزع أسلحتهم لأنه يدافع بها عن حياة التوتسي هناك، لكن الحكومة نفت ذلك. كما اتهمها بالتلكؤ في دمج المسرحين في الجيش أو إعادة تأهيلهم ودمجهم في أجهزة الدولة المدنية.سبب آخر للأزمة هو انعدام الثقة بين الطرفين حيث وقعت اشتباكات متفرقة بين قواتهما رغم اتفاق وقف إطلاق النار، فتردد نكوندا في إلقاء السلاح.أما السبب الأهم فهو خوف نكوندا من إلقاء القبض عليه وتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا لم يحصل على ما يضمن إسقاط التهم عنه ورفاقه وعدم ملاحقتهم في المستقبل، وربما توفير اللجوء الآمن له في دولة أخرى مثل بلجيكا على غرار ما حدث مع المتمرد السابق جان بيار بيمبا، وكذلك العفو عن أفراد مليشياته نهائيا وتعويضهم، بالإضافة إلى نزع أسلحة مليشيات الهوتو الروانديين وإزالة خطرهم عن بني قومه. أخطار العودة إلى نقطة الصفر الأوضاع يمكن أن تعود إلى نقطة الصفر ليس فقط في الشرق وإنما في كل الكونغو إذا لم يتم التحرك بسرعة لاحتواء تمرد نكوندا. فقد تدخلت رواندا عسكريا وستظل تتدخل لدعمه ومحاربة مليشيات الهوتو مباشرة طالما ظلوا يشنون هجمات عبر الحدود على أهداف داخل أراضيها, وإذا استجابت أنغولا لطلب حكومة كابيلا التدخل لمساعدته فإن ذلك قد يدفع أوغندا للتدخل إلى جانب رواندا ضده.وقد تعود ناميبيا وربما زيمبابوي التي يبحث رئيسها روبرت موغابي عن دور خارجي لإلهاء شعبه عن الأزمة الاقتصادية الخانقة (نسبة التضخم 231 مليونا%) وعن معركة اقتسام السلطة مع المعارضة بزعامة مورغان تسفانغيراي. وإذا حدث ذلك فإن حربا إقليمية ثانية ستندلع في منطقة البحيرات العظمى يروح ضحيتها مئات الآلاف وتقضي على القدر اليسير من التحسن الاقتصادي الذي تحقق في السنوات الأخيرة في دول مثل أنغولا ورواندا.ولا خروج من هذا المأزق إلا باتفاق سلام شامل تكون رواندا أحد أطرافه كي توقف دعمها للمتمردين الكونغوليين مقابل توقف هجمات المسلحين الهوتو على أراضيها ونزع أسلحتهم وسلاح المليشيات الأخرى المناوئة وتنفيذ كل ما ورد في اتفاق يناير/كانون الثاني ومنح الأمان لنكوندا ورفاقه بعدم تقديمهم للمحاكمة.فهناك من أخذوا على اتفاق السلام أنه لم يشرك رواندا فأعفاها بالتالي من أي التزامات يتوجب القيام بها لنجاحه أو على الأقل منع اتساع رقعة الحرب.