نحن على أبواب القمة العربية، وهي ذات الأبواب لم تتغير ولم يجر طلاؤها أو تجديدها أو تحديثها. أبواب صدئة تنخرها شقوق تفضح كل ما يجري خلفها. هناك قلة قليلة من أبناء الأمة العربية ينتظرون الخبر، وكثرة لم تعد تكترث، وربما لم تعد تحزن للمستوى الذي تعبر عنه أعمال القادة العرب عندما يجتمعون. لكن وسائل الإعلام مستنفرة الآن، وهي تشحذ هممها، وتجند أفضل مراسليها لتغطية هذا الخبر الذي من الصعب أن نصفه بالحدث الذي يمكن أن يترتب عليه تاريخ.تجارب العرب مع القمم عديدة بعدد انعقادها، وخيباتهم تكاد تكون بذلك العدد. تتوالى القمم، وهزائم العرب تتزايد، وإخفاقاتهم في مختلف مجالات الحياة تتواصل، والأرقام والإحصائيات حول التعليم والصحة والتخلف الاقتصادي ومجال الحريات لا تخفي أسرارا.وقد أثبتت هذه التجارب أن قادة العرب مجتمعين أعجز من أن يصنعوا شيئا، وكأنهم يشكلون كوابح متبادلة تعطّل الحركة، وتعرقل الطموحات نحو التقدم. ربما تستطيع دولة عربية إنجاز شيء، وربما تستطيع دولتان مجتمعتان أن تصنعا شيئا، لكن العرب يكونون في أعجز حالاتهم عندما يجتمعون. الظروف الذاتية والموضوعية هل ستحقق هذه القمة في عام 2009 شيئا إيجابيا للأمة العربية؟ وهل ستشكل نقطة تحول تاريخية بالنسبة للعرب؟ الجواب لا. وحتى لا يغرق المرء في التمنيات، ولكي يتكهن بخير متفاديا الإحباط، لا بد أن يرى أرضية لهذا الخير، أو متغيرات تنبئ بانبثاق وضع جديد.الخير لا يأتي فجأة بناء على دعوات لا يسندها عمل، وإنما هو عبارة عن نتاج ظروف ذاتية وموضوعية هيأت له بالعرق والجهد والتعب. ومن التفكير العلمي أن ينظر الباحث إلى مختلف الظروف ليحكم بما إذا كان الحصاد سيكون مختلفا عما سبق. وإذا نظرنا إلى هذه الظروف عربيا فسنجد: أولا: قمع الإنسان العربي, فالإنسان العربي ما زال يعيش تحت إرهاب الأجهزة الأمنية العربية التي تكبته وتقهره وتلاحقه في قيامه وسباته، في عمله وأوقات راحته، وتحوله إلى مجرد لاهث وراء لقمة خبز بدون طموحات أو شعور بالكرامة الذاتية. ربما يكون حال الإنسان العربي في لبنان والكويت أفضل منه في بلدان أخرى، لكن القمع يبقى العنوان تحت تبريرات الزندقة والانشقاق والغوغائية. الأحرار هم الذين يصنعون المستقبل، وما دام قادة العرب يأبون الحرية لشعوبهم فإنهم يأبون بالتأكيد مغادرة الماضي نحو المستقبل. ثانيا: ظروف الإنسان العربي المعيشية: اقتصاديا وتعليميا وصحيا ما زالت متدهورة مقارنة مع دول العالم، والفجوة بين العرب وبين دول العالم المتقدم تزداد وتتسع سنة بعد سنة. في بلاد العرب التي تبدد الأموال، وهناك أكثر من 70 مليون أمي، ونسبة البطالة تصل في المتوسط إلى حوالي 14%، والناتج المحلي مضمحل جدا إذا استثنينا الناتج الاستخراجي الذي لا دخل لقادة العرب فيه. ثالثا: استيراد الطعام واستباحة الأمن, يستورد العرب 75% من احتياجاتهم الغذائية، وهي نسبة تعبر عن مدى الاتكالية العربية والكسل والعجز المرعب في مسألة الاعتماد على الذات. الأمم المحترمة هي تلك التي تركز على توفير أمرين هامين وهما الغذاء والأمن، وكل أمة لا تعمل بهذا الاتجاه إنما تضع مصيرها ومستقبل أجيالها بأيد خارجية. لا توجد دولة عربية عدا سوريا تستطيع الوقوف على أقدامها غذائيا، وجميعها مستعبدة للقمة الخبز القادمة من الخارج، وفي حال الحصار، لا تملك الدول العربية إلا الاستسلام. كل ذهب الأرض لا يعني شيئا إذا كنت بحاجة لرغيف ولا تجد من يعطيك أو يبيعك إياه. على المستوى الأمني، لا توجد أمة في الأرض تستباح أرضها كما هو الوضع عند العرب. ما على الأمم التي تبحث عن انتصار عسكري يُسجل لها تاريخيا إلا محاربة الأنظمة العربية، وهكذا فعلت إرتيريا عندما احتلت الجزر اليمنية في البحر الأحمر، وإثيوبيا عندما احتلت الصومال. أنظمة العرب ليسوا ضعفاء فقط، وإنما هم يدخلون الغزاة إلى أرض العرب كما حصل في الحرب على العراق، والحرب على الصومال، وهم يستدعون القوات الأجنبية للعون والمساعدة.بهذا الصدد، يمكن تصنيف الأنظمة العربية إلى: أنظمة أوجدها الاستعمار الغربي وما زال يرعاها، وهي باقية بفضل هذه الرعاية، وأنظمة موجودة بفضل الحماية العسكرية التي يوفرها أهل الغرب وإسرائيل، وأخرى تتلقى معونات مالية، ولا تستطيع صرف رواتب موظفيها بدون ذلك. أما الصنف الرابع، فيعاني من فساد نظام حكمه، ومن ملاحقة أهل الغرب وإسرائيل له. رابعا: الأنظمة العربية لا تثق بعضها ببعض، وهي تتعامل تبادليا على أساس الشك والريبة والتآمر. وتاريخ العلاقات المتبادلة بين الأنظمة العربية يؤيد ذلك، وهو مليء بالمؤامرات المتبادلة، ومحاولات القلب والتدمير والإنهاك، وإلى درجة التعاون مع قوى خارجية بما فيها إسرائيل. عداوات الأنظمة العربية شبيهة بعداوات قبائل الجاهلية التي لا تُنسى ولا يدثرها الزمن، وهي سرعان ما تطل برأسها بصيغ مختلفة ليدفع ثمنها المواطن العربي المسكين. صحيح أن في لقاءات قادة العرب الكثير من القبل والعناق، لكن ذلك جزءا من الدجل العربي الذي يخفي تحته الكثير من البغضاء والكراهية.العلاقات الخارجية العربية لها أولوية على العلاقات الداخلية، وإذا تضاربت علاقة داخلية مع ارتباطات بالخارج، فإنه تتم التضحية بالداخل لحساب الخارج، وكثيرا ما تتم الاستعانة بالخارج من أجل السيطرة على الداخل. نحن ما زلنا في زمن المناذرة والغساسنة الذين خدموا الإمبراطوريات الكبرى دون أن يتوقفوا عن الخصومات الداخلية. وفي الغالب، علاقتنا مع الخارج ليست علاقة ندية أو احترام متبادل وإنما علاقة تبعية. خامسا: انخفاض سقف المطالب والطموحات. بدأت الأمة العربية بعد الحرب العالمية الثانية بثلاثة طموحات رئيسية وهي الوحدة العربية وطرد الاستعمار وتحرير فلسطين. طموح الوحدة العربية الآن على وشك الزوال، وأحيانا يتعرض المتمسك به للاستهزاء والتندر، وقد استبدله حكام العرب بالتضامن العربي والعمل العربي المشترك.لقد خيب القادة آمال الناس وطموحاتهم، ويعملون باستمرار على تزيين هذه الخيبة بعبارات تحمل الكثير من الكذب والتحايل. أنا أستاذ في العلوم السياسية، وحتى الآن لا أعلم ما هو معنى التضامن العربي. وقد وصل الانحدار في هذه المسألة إلى درجة أن التركيز الآن منصب على الوحدة الوطنية الخاص بالإقطاعية العربية الواحدة. الوحدة الوطنية مطلوبة الآن في فلسطين ولبنان ومصر والسودان والمغرب والجزائر والعراق واليمن، وقريبا في دول عربية أخرى. أي أن الأنظمة العربية لم تفشل فقط في توحيد الأمة العربية والوطن العربي، بل مزقت وحدة الإقطاعيات التي تسيطر عليها.أما طموح طرد الاستعمار فقد تم استبداله بنقيضه وهو ضرورة وجود الاستعمار وتكثيف تدخله في الوطن العربي. الاستعمار مطلوب منه أن يتدخل في لبنان وفلسطين والعراق والإمارات والمغرب والصومال لأن أنظمة العرب أعجز من أن تحل مشاكل الأمة، إن لم تكن هي التي تصنعها.لقد هبط الاستقلال العربي هبوطا حادا وتدريجيا مع الزمن إلى درجة يصعب معها الحديث عن استقلال الدول العربية. وفي ظل هذا الوضع نجد دولة مثل مصر تتحدث عن سيادتها على أراضيها ورفضها للوجود الأجنبي في الوقت الذي توجد فيه القوات المتعددة الجنسيات في ممري متلا وجدي، ونجد السلطة الفلسطينية التي يحكمها دايتون الأميركي تتحدث عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل. أكيد، في زمن السقوط تكثر شعارات النهوض.أما بالنسبة لفلسطين، فالمطلب الآن هو الاعتراف بإسرائيل لأن في ذلك تكمن مصلحة قادة العرب. القمة العربية اعترفت بإسرائيل، وهي تلهث وراء إسرائيل من أجل الجلوس لمناقشة المبادرة العربية الصادرة عام 2002 في بيروت. ومطلب الاعتراف لا يقتصر على دول عربية بعيدة عن ميدان القتال، وإنما يشمل أهل فلسطين الذين من المفروض، وفق مواثيقهم المكتوبة، ألا يفكروا أبدا في مثل هذا الأمر.وقد شكلت مسألة الاعتراف بإسرائيل أساسا للحرب بين الفلسطينيين في غزة، ودفعت مسؤولين مصريين يرعون الحوار الفلسطيني/الفلسطيني للسفر إلى واشنطن لمعرفة ما إذا كان اتفاقا فلسطينيا داخليا لا يعترف بإسرائيل مقبولا لديهم. النتيجة بالإمكان أن يسهب المرء في المزيد من سرد أوصاف المأساة العربية، لكن تكفي هذه العناصر المشار إليها لتكوين استنتاج قطعي بأن القمة العربية المستحقة الآن فاشلة، ولن تحقق للعربي وضعا جديدا يجد فيه نفسه ويأمل تحقيق جزء من طموحاته.لم تتطور منذ العام الماضي أي أوضاع جديدة على وضع الأنظمة العربية تدعونا إلى الظن بأن أنظمة العرب ستقرر نفض الغبار واتباع أسلوب منهجي علمي جديد ينسجم مع أصول التقدم والبناء. القمة بمستوى قادتها، ومن عجز عن قراءة اللغة العربية عجز عن ركوب أسباب العز والفخار.هناك من سيقول إن هذه نظرة تشاؤمية، وتفاءلوا بالخير تجدوه. هذا كلام لا علاقة له بالعلم. في العلم لا يوجد تشاؤم وتفاؤل، وإنما هناك وصف وتحليل، وهناك وصف لنتائج حاصلة أو متوقعة دون إدخال الرغبات الشخصية أو التمنيات في الموضوع قيد البحث. قد يغرق المتفائل بدون علم في الإحباط، وقد يغرق المتشائم بغير علم في بحر الاستسلام؛ ونحن نريد تقييم الأمور بطريقة تحفزنا على العمل في مواجهة الظلم والاستعباد وتبديد الأموال. المتغير الوحيد المتغير الوحيد الهام الذي طرأ على الساحة العربية منذ القمة السابقة هو صمود حماس في الحرب على غزة، وفشل إسرائيل في تحقيق هدفها في تغيير الوضع القائم في غزة.من المفروض أن هذا متغير كبير من حيث إن فئة قليلة العدد قد صمدت في وجه الآلة العسكرية الصهيونية على الرغم من الحصار والقتل الجماعي والتدمير الهائل، وهو يشكل منعطفا على الأرض الفلسطينية من حيث إن المقاومة الفلسطينية قد أنجزت نقطة ارتكاز جغرافية هامة يمكن أن تبني عليها رأس حربة قويا في مواجهة إسرائيل. لكن هل سيأخذ الحكام هذا المتغير بإيجابية؟سبق أن عقدت الأنظمة العربية قمة بعد فشل إسرائيل في لبنان وانتصار حزب الله، لكنها لم تستفد من الحدث التاريخي، ومضت متمسكة بمبادرتها البيروتية دون أي انتباه للخلل الحاصل في ميزان القوى.انهمك قادة العرب عام 2006 في إثبات هزيمة حزب الله وانتصار إسرائيل، وانهمكوا أيضا بعد حرب الكوانين (أي كانون الأول والثاني) في إثبات هزيمة حماس وانتصار إسرائيل. ويبدو أن اهتمام أغلب الأنظمة العربية ينصب الآن على كيفية حشد الطاقات العربية للقفز عن ميزان القوى الجديد وإعادة المقاومة العربية إلى حال الجعجعة الفارغة والشعارات الخاوية. همهم الأكبر ينصب على كيفية القضاء على حزب الله، وكيفية جرّ حماس إلى مستنقع الاعتراف بإسرائيل.هذا واضح تماما في استنفار أنظمة عربية في مواجهة إيران دون مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، ذلك لأن إيران وظفت أموالها وطاقاتها من أجل تطوير اعتمادها على ذاتها في مختلف المجالات، وطورت قاعدة علمية وتقنية لا يستهان بها.إيران هي مصدر دعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية الرئيسي، وهي بالتالي مصدر عدم استقرار يخل بوجود إسرائيل وبمصالح الكثير من الأنظمة العربية. المشكلة أن أنظمة العرب تصر على العجز، وتكره أن ترى في الجوار أقوياء. فإذا كان للأنظمة أن تدمر المقاومة، فإن عليها تدمير مصادر مساندتها.