لما تولى الواثق منع الإمام أحمد من الاجتماع بالناس وقال: لا تساكني في بلد أنا فيه، فأقام الإمام ببغداد مختفيا لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها حتى مات الواثق، وذلك مدة خمس سنوات تقريبا. فلما تولى المتوكل الخلافة سنة 232 بقيت المحنة قائمة خلال عامين من حكمه، ثم رُفعت سنة 234، وكانت قد بدأت من السنة الأخيرة من خلافة المأمون وهي سنة 218، وانتهت في السنة الثانية أو الثالثة من خلافة المتوكل سنة 234، حيث أوقف المتوكل أخذ الناس بالمحنة، وأصدر إعلانا عاما في كافة أنحاء الدولة نهى فيه عن القول بخلق القرآن، وتهدد من يخوض في ذلك بالقتل، فعم الناس الفرح في كل مكان، وأثنوا على سجايا الخليفة ومآثره ونسوا شروره ورذائله، وسمع الدعاء له من كل جانب، وذكر اسمه مع اسمي الخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز. وكان المتوكل يكره العلويين ويسرف في مطاردتهم، فجعل المعتزلة يحيكون دسائسهم لدى الخليفة ضد الإمام أحمد، ويتهمونه بالجنوح إلى العلويين، وتتطور المحنة لتأخذ لونا آخر، وتشتد الرقابة على الإمام أحمد، وامتدت أعناق أهل الفتنة فاتهموا الإمام أحمد لدى الخليفة أنه يؤوي في بيته أحد العلويين ذوي القدر الخطير، ويُثَوّرُ الخليفة فيرسل من فوره إلى بغداد لمفاجأة بيت الإمام أحمد والقبض على العلوي المزعوم، وفي ليلة من الليالي بعد أن نام الناس وهدأت الحركة وأرخى الليل سدوله على بغداد الهادئة الساكنة، سمع أحمد دقا عنيفا على باب داره، فقام إلى الباب ففتحه فإذا به أمام رجلين وامرأتين؛ أما الرجلان فهما مظفر حاجب عبد الله بن إسحاق نائب بغداد، والآخر ابن الكلبي صاحب البريد، قال مظفر: يقول لك الأمير: إن أمير المؤمنين كُتب إليه أن عندك طلبته العلوي، وقال ابن الكلبي: نعم إنك تؤوي في بيتك علويا من أعداء أمير المؤمنين وقد جئنا لأخذه، فقال الإمام أحمد: إني لا أعرف هذا ولا أرى سوى طاعة أمير المؤمنين في العُسر واليسر والمنشط والمكره والأثرة. وسكت الإمام قليلا سكتة ذكر فيها حرمانه من المسجد بدون مسوغ، واستأنف يقول: إني أتأسف عن تأخري عن الصلاة وعن حضور الجمعة ودعوة المسلمين، قال ابن الكلبي: قد أمرني أمير المؤمنين أن أُحَلفك ما عندك طلبته أفتحلف؟ قال أحمد: إن استحلفتني حلفت؟ فأحلفه ابن الكلبي بالله فحلف، وبالطلاق فحلف. وكان نساء الدار والصبيان قد حضروا وحضر ابنه صالح، فقال ابن الكلبي: أريد أن أفتش منزلك ومنزل ابنك صالح، وقام مظفر وابن الكلبي ففتشا البيت وفتشت المرأتان النساء فلم يعثروا على شيء، وفتشا بيت صالح فلم يجدا شيئا، وفتشت المرأتان أماكن الحريم، وجاءوا بشمعة فأدلوها في البئر، وانصرفوا بعد أن لم يجدوا شيئا. وتولى ابن الكلبي وصف حال الإمام أحمد للمتوكل من احتباسه عن الجمعة والجماعة بدون مسوغ، ومن صدق لهجته فيما يكن لأمير المؤمنين من السمع والطاعة في المنشط والمكره ومن براءته مما عزاه إليه خصومه، وأذن الله بانكشاف الغمة فجاءه بعد يومين كتاب من علي بن الجهم أن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك مما قُذفت به، وكان أهل البدع قد مدوا أعناقهم فالحمد لله الذي لم يشمتهم بك.