لازالت مدينة التّيتري (المديّة)، ذات الألف سنة وأكثر، تتشبث بكل تقاليدها في الحياة، كعجوز معمّرة تحتفظ بأغراضها العتيقة وتأبى أن تبدلها مهما أغرتها بهرجة العصر، إذ قليلا ما تحن هذه المدينة إلى أيّام زمان لأنّها ببساطة تعيد ذلك الزمن الجميل بذات نكهة الأمس مع كل مناسبة تحييها. رمضان التّيتري يشبه العرس الفخم الذي يتباهى به أصحابه و يسعون إلى التميّز من خلاله، حتى تتداوله كل الألسنة و تتجلى من خلاله فرحتهم بقدومه، حيث تشهد المدينة انتفاضا جماعيا و حركة غير عادية في البيوت و الأسواق تحضيرا لاستقباله حسب العادات و التقاليد المتوارثة جيلا عن جيل، كما يخيم جوّ من الروحانية العالية المنعكس في مظاهر التراحم و التآخي بين سكانها، كما بين كل الجزائريين في مثل هذه المواسم. "المديّة" تتزين لاستقبال الشهر الكريم ؟ تحضيرات "اللمدانيون" (سكان المدية) لاستقبال الشهر الكريم تنطلق بداية من شهر رجب بتلميع الأواني النّحاسية التي يشتهرون باستعمالها لتزيين بيوتهم و هو ما تتكفل به النسوة على طريقة الجدات، باستخدام قشور الليمون بدلا من مستحضرات التّلميع السّريعة. بعد ذلك يشرع في إعادة دهان المنازل و اقتناء الأواني و الأفرشة الجديدة، لينتقلون بعد ذلك أهم تفاصيل التحضيرات لرمضان، ألا وهو شراء التوابل، لكن ليس من أي محل كان إذ لا بد أن تقف في طابور طويل أمام عطارة "الحامولي"، أشهر باعة التوابل في المدينة على الإطلاق، و الغريب أنّه لا أحد يتذمر من الانتظار هناك، ربما لأن التّعب يذوب في الحديث عن وصفات الطبخ التي تتبادلها النّسوة في مثل هذه المناسبات أو في الشكوى من غلاء المعيشة و صعوبة الحياة. بدخول شهر شعبان تبدأ النساء في تحضير بعض أنواع المعجنات مثل "الكسكسي"، و هو طبق السحور الذي تشترك فيه كل ولايات الجزائر، و إنما يفضل أغلب سكان المدية تحضيره في المنزل بدل شرائه جاهزا و تناوله بالعسل أو مع الحليب الطازج أو اللبن، "المقطفة" عجينة أخرى تحضر على شكل شعيرات رقيقة يتم تجفيفها لاستعمالها في الحساء. كما يتم تجفيف الطماطم المستخدمة في تحضير الشوربة بدلا من الطماطم المعلبة،حيث يتم تقطيعها نصفين ثم رشها بالملح و تعريضها لأشعة الشمس الحارقة قبل وضعها في علب زجاجية لتحتفظ بكامل نكهتها. أنواع عديدة من المخللات مثل الزيتون بأنواعه و الطماطم و الفلفل و الجزر و البسباس يتم تحضيرها أيضا في المنزل قبل فترة، بوضعها في الماء و الخل و عديد الأعشاب العطرية ، لتقدم على مائدة الإفطار كمقبلات فاتحة للشهية طيلة أيّام الشهر الكريم. أواخر أيّام شعبان، أين تكتمل كافة التحضيرات، تكتظ الحمّامات التركية بالنساء، و هو ما يسمى ب "حمّام شعبان"، و تقول أغلبهن انّه لأجل الاسترخاء من تعب التحضيرات، و من المعروف أن الحمام في هذه المنطقة، أحسن مكان للتعارف و خطبة الشابات.