تأملْ في ساعتك وانظر إلى عقاربها، إن الزمن يأكل الثواني أكلاً، لا يتوقف ولا ينثني، بل لا يزال يجري ويلتهم الساعات والدقائق سواء كنت قائماً أو نائماً، عاملاً أو عاطلاً، وتذكّرْ أن كل لحظة تمضي، وثانية تنقضي فإنما هي جزء من عمرك، وأنها مرصودة في سجلك ودفترك، ومكتوب في صحيفة حسناتك أو سيئاتك، فاتّق الله في نفسك، واحرص على شغل أوقاتك فيما يقربك إلى ربك، ويكون سبباً لسعادتك وحسن عاقبتك، في دنياك وآخرتك، فإن كان قد ذهب من هذا الشهر أكثره، فقد بقي فيه أجلّه وأخيره، لقد بقي فيه العشر الأواخر التي هي زبدته وثمرته، وموضع الذؤابة منه. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يعظّم هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهاداً حتى لا يكاد يقدر عليه، يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، فما أحرانا نحن المذنبين المفرّطين أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم فنعرف لهذه الأيام فضلها، ونجتهد فيها، لعل الله أن يدركنا برحمته، ويسعفنا بنفحة من نفحاته، تكون سبباً لسعادتنا في عاجل أمرنا وآجله. آثار وثمار خُلق الإيثار إذا كنت ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل فأنت سَخِي، وإن كنتَ ممن يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم فأنت جواد، أما إن كنت ممن يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت لكنك قدمت غيرك على نفسك فقد وصلت إلى مرتبة الإيثار.. ومرتبة الإيثار هي من أعلى المراتب، ومعنى الإيثار هو أن يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا.ولقد أثنى الله على أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين، فقال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، ولو لم يكن من فضائله إلا أنه دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام ورفعة الأخلاق لكفى، وهو طريق إلى محبة الرب سبحانه، وهو طريق لجلب البركة ووقاية من الشُّحِّ والبخل. ولقد قسم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقالوا: الدرجة الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يُنقص عليك دِينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، يعني أن تُقدمهم على نفسك في مصالحهم ودنياهم، أمّا أن تؤثرهم على صلاح قلبك وحالك مع الله فلا تؤثِر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الشيطان على الله وأنت لا تعلم. الدرجة الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن، وإيثار رضا الله عز وجل على غيره هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه. وللإيثار ثمرات منها انتشار التعاون والتعاضد بين المسلمين وتحقيق الكفاية المادية في المجتمع، وبتحقيق الإيثار يتحقق الكمال الإيماني في النفس، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، والإيثار يقودك إلى ترك جملة من الصفات الذميمة كالحسد والحقد والبغض للآخرين وغير ذلك من الصفات الذميمة. وللإيثار دوافع أهمها الرغبة في مكارم الأخلاق والتنزه عن سيئها، إذ بحسب رغبة الإنسان في مكارم الأخلاق يكون إيثاره، ومنها توطين النفس على تحمل الشدائد والصعاب، فإن ذلك مما يعين على الإيثار، ومنها تعظيم الحقوق، فمتى عُظمت الحقوق عند امرئٍ قام بحقها وأيقن أنه إن لم يبلغ رتبة الإيثار لم يؤد الحقوق كما ينبغي فيحتاط لذلك بالإيثار.