عندما قدر لي أن أزور غزة قبل أسابيع في مهمة إعلامية، كنت أضع في اعتباري كل الذي شاهدته في الفضائيات، وسمعته عبر أمواج الأثير أو قرأته... لكن واقع غزة كان شيئا مختلفا تماما، واتضح أن الفضائيات لم تنقل لنا إلا أقل القليل عن هذه المنطقة العربية الثائرة.وصلنا إلى مصر انطلاقا من مطار الدوحة، وعلى عكس بقية المسافرين فقد قررت المخابرات المصرية العامة استضافتنا، بحجة عدم الحيازة على "الموافقة الأمنية"، ورغم جميع محاولات إفهام ضباط المخابرات المصرية أن هذه الحجة غير منطقية، إذ أن التأشيرة التي أحملها قد جاءت بناءًا على توصية السفير المصري في قطر شخصيا، فإن هؤلاء ظلوا مصرّين على احتجازي، وقد كان تعاملهم مؤدبا للغاية إلا أنهم تمسكوا بموقفهم، وبعد حوالي الساعتين طلبت منهم استرجاع جواز سفري والسماح لي بمغادرة بمطار القاهرة، إلى أي دولة ثانية، ولمحت لإمكانية الاتصال بسفيرنا في القاهرة، وسفيرهم في قطر وتحويل الموضوع إلى مشكلة إعلامية، فما كان منهم إلا منحي تصريح الدخول خلال خمس دقائق! تصريح شرفي وموافقة دبلوماسية للعبور إلى غزة تفرض السلطات المصرية على كل إعلامي مسافر إلى غزة، الحصول على موافقة مكتوبة من سفارة بلده تثبت عدم ممانعة السفارة في سفره، وبذات الحين يجب أن تحمل هذه الموافقة بندا يؤكد أن هذا السفر لا يحمّل السفارة أي مسؤولية فيما لو تعرّض المسافر لأي مشكل، وفي هذا السياق فقد تعاون سفيرنا في القاهرة، الأستاذ عبد القادر حجار، برجولة جزائرية كبيرة، حيث قدّم طلبا باسمه الشخصي لمدير "مركز المراسلين الأجانب في القاهرة" لتسهيل سفري، ومن ثمة انطلقنا إلى العريش بحافلة مصرية. تبعد العريش عن القاهرة مسافة تقطعها السيارة في حوالي أربع ساعات والحافلة في خمسة إلى خمسة ونصف، ولكن الغريب أن هذه المسافة البالغة حوالي 400 كيلومترا، قد كانت ملغمة تماما ب"كمائن" الشرطة المصرية، إذ توقفت الحافلة بنا 7 مرات للتفتيش، وفي كل مرة كان الضباط المصريون يدققون في وثائق الجميع، ويحاولون معرفة كل صغيرة وكبيرة عن أسباب سفرنا، ما عكس الوضعية الأمنية الدقيقة التي تمر بها منطقة سيناء المصرية ككل، وبدا واضحا أن الضباط المصريين كانوا يحاولون ضبط حدودهم مع غزة، ومحاولة البحث عن أي فلسطيني متسلل إلى مصر. أما مدينة العريش في حدّ ذاتها، فلعلها تشبه المدن الجزائرية الواقعة على الحدود المغربية في طبيعة جوّها الصحراوي الشديد البرودة ليلا والجاف نهارا وهي مدينة ليست كبيرة جدا، ولكنها تحوي جامعة جميلة التصميم وفندقا سياحيا يحمل اسم "سويس إن" ذو تصميم غربي، تبلغ كلفة الليلة الواحدة فيه حوالي 180 دولارا! بينما تنتشر بطول شاطئها "فيلات" و"بانقالوهات" لبعض كبار أركان النظام المصري الذين يفضلون قضاء عطلهم فيها، بعيدا عن صخب القاهرة وضجيجها. المعبر تحت سيطرة المخابرات انطلقنا في حدود الساعة العاشرة والنصف إلى معبر رفح الحدودي، الذي يبدأ العمل فيه على الساعة الحادية عشر يوميا، وعند المعبر كان ممكنا ملاحظة العدد الكبير من الراغبين في الدخول إلى غزة ومعظمهم من الأطباء والصحفيين وبعض النواب. وقد التقينا في المعبر مع فريق من نقابة المهندسين الأردنيين، الذين جاؤوا إلى مصر انطلاقا من خليج العقبة، وروى لنا هؤلاء كيف أن السلطات المصرية قد احتجزتهم بمجرد دخولهم التراب المصري، إذ بقوا لثماني ساعات بالتقريب في أقصى جنوبسيناء (الطرف الغربي لمنطقة إيلات)، دون طعام ولا ماء وبدون أسباب ظاهرة للاحتجاز. أكثر من هذا؛ فوجئنا بوجود الصحفي غسان بن جدو الذي كان يحاول المرور إلى غزة، رفقة طاقم من مصوري قناة "الجزيرة" القطرية، وفريق آخر من التلفزيون الفيليبيني، وآخر من التلفزيون الأندونيسي ونائبين من البرلمان المغربي، وقد فرضت السلطات علينا جميعا أن نوقع على تصريح شرفي نتعهد من خلاله بمغادرة غزة خلال ثلاثة أيام من تاريخ دخولنا لها، ومع أننا وقعنا التعهد المطلوب فقد اضطرتنا السلطات المصرية للانتظار سبع ساعات كاملة، سألنا موظفي حرس الحدود عن سبب تأخيرنا، فلم يكن لديهم أي جواب، لكن أحدهم صارحنا بأن لا أحد من موظفي المعبر يعرف أي شيء، وأن قرار دخول وخروج أي شخص من المعبر يتخذ من طرف فريق خاص من ضباط المخابرات المصرية، وهؤلاء لا يخضعون لسيطرة أيّ كان، سوى الضباط الأعلى منهم رتبة في ذات الجهاز، ولا يستطيع بقية العاملين في المعبر التأثير على قرارهم، ولا أن يطلبوا منهم أي معلومة فضلا عن طلب تبرير لقراراتهم. في تلك الأثناء كان المنظر عند المعبر مؤلما للغاية فقد التقينا مع بعض الجرحى الفلسطينيين، وقد أعادتهم مصر إلى غزة، وبعضهم لم يكمل علاجه بينما كان بعضهم بلا مال ولا وسيلة للاتصال بذويه فيما كان أعضاء نقابة المهندسين الأردنيين يعانون الأمرين، فقد قيل لهم أنهم سوف يدخلون وانتظروا ساعات طوالا للدخول، ثم تم إخبارهم أنهم لن يدخلوا وفي تلك الساعات التي جمعتنا معهم في المعبر اضطررنا جميعا لأكل قطع من الجبن والخبز، ولم يتوفر لنا أي غذاء آخر، فلا يحتوي المعبر على أية مقهى ولا مطعم والكافيتيريا الوحيدة الموجودة فيه كانت فارغة تماما، ويظهر أنها لم تستخدم منذ فترة طويلة. وبعد انتظار طويل جاءنا بعض موظفي المعبر وأخبرونا أن المصريين سمحوا لنا بدخول غزة، بينما رفضوا دخول الصحفي الشهير غسان بن جدو، الذي كان حزينا للغاية بسبب هذا القرار، ورفض المصريون أيضا دخول نائبين من المغرب وفريق المهندسين الأردنيين. أنهينا إجراءات الدخول ثم ركبنا حافلة تنطلق من الجهة المصرية للمعبر إلى ناحيته الفلسطينية، قاطعة المسافة في حدود الخمس دقائق عبر ممرات معشوشبة وطرق مهترئة، بينما تنتصب على الناحيتين اليمنى واليسرى للطريق، جدران إسمنتية عالية يبلغ طول بعضها خمس أمتار، بهدف حماية المعبر من أي محاولة فلسطينية لاقتحامه. .... و أخيرا في غزة وصلنا إلى غزة مع أولى ساعات المساء، وبينما كان بعض الحمالين من الناحية المصرية يطالبون بخمسة جنيهات عن حمل الحقائب (حوالي 100 دينار) فإننا في الناحية الفلسطينية، وجدنا عدة متطوعين يرحبون بالقادمين إليهم، ويحملون أغراضهم بكل سرور دون أن يطالبوا بأي نقود، رغم ما يبدو من وضعية اجتماعية صعبة يعيشونها، ولما سألناهم عن السبب كانوا يردون أن خدمة زائري غزة هي شرف لهم، وأنهم يودون أن ينقل كل زائر إلى غزة، ما شاهده من مآسي إلى بلده، ويعرّف بقضيتهم الفلسطينية العادلة. يتميز الجانب الفلسطيني من المعبر بالبساطة الشديدة، وقد تم إنهاء إجراءات دخولنا إلى غزة بكل سر، بينما تكفل طاقم من الضباط والمتطوعين باستقبال وفدنا الإعلامي، وقدموا لنا القهوة والتمر وجلسوا معنا لمدة ربع ساعة، سألونا خلالها عما إذا كنا نملك أي أصدقاء نذهب إليهم، وقد أبدوا استعدادهم لمساعدتنا في تدبير مأوى في حال لم يكن لدينا مكان نذهب إليه. بعد ذلك انطلقنا في سيارة أحد الأصدقاء إلى مدينة غزة، التي تبعد عن منطقة رفح بحوالي35 كيلومترا، لكن السيارة تستغرق أكثر من ساعة للوصول إلى هناك، بفعل اهتراء الطرق وصعوبة السير فيها. أول ما يلفت النظر عندما تصل إلى منطقة رفح هو طابعها الزراعي، إذ تنتشر مساحات واسعة من البساتين على جنبات الطريق، بينما تبدو مساكنها غارقة في الفقر والحاجة، وكأنها مدينة مهجورة منذ سنوات، وتغيب إشارات المرور بشكل كامل وتحل مكانها لافتات ضخمة بأسماء الشهداء الفلسطينيين من مختلف الفصائل ك"حماس" و "فتح" و"الجهاد" و"الألوية" و "الجبهة الشعبية"..الخ، وفي الجانب الشرقي لطريق "صلاح الدين" الذي يشق غزة من الشمال إلى الجنوب، يمكن أن تشاهد المناطق الإسرائيلية بمنتهى السهولة، ولا يفصل بينها وبين المناطق الفلسطينية سوى بساتين ومصانع لمختلف البضائع، وقد جرفها الجيش الإسرائيلي بشكل شبه كلي خلال محاولته التقدم باتجاه داخل قطاع غزة، وتم تجريف الأراضي الزراعية، بينما تعرضت المصانع لضربات مركزة قضت على غالبيتها الساحقة. وصلنا إلى منزل الصديق الذي تكفل بإيوائنا، وكان في استقبالنا أبوه ووالدته وكافة أفراد الأسرة، وقد كانت فرحتهم عارمة للغاية، لأن ضيفهم من جنسية جزائرية إذ أنهم يعشقون الجزائر، وقد درس بعض أفراد الأسر ة في الجزائر، وبينما كانت الوالدة تقدم لنا ما تيسر من غداء، كان هؤلاء يحكون عن ذكرياتهم في الجزائر. رغبنا بالذهاب فورا إلى المناطق التي جرت فيها المعارك، لكن أفراد الأسرة ألحوا على أن نرتاح متعهدين بجولة كبيرة في كل المناطق التي مستها الضربات الإسرائيلية، وهو ما تحقق بالفعل... في الحلقة المقبلة: هكذا منعت المقاومة إسرائيل من احتلال غزة "الشهيد" عماد عقل يوقف زحف الدبابات الإسرائيلية من قبره!