وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. إنها قصة يتيم مكة، الذي صدقت فيه دعوة إبراهيم، ونبوءة موسى، وبشارة عيسى عليهم السلام، فنزل عليه الوحي ليكون خاتم النبيين، وليتمم مكارم الأخلاق، وليحرر العقل البشري في كل أركان المعمورة من الأوهام والخرافات، ويرفع راية السلام والعدل ومكارم الأخلاق على مر الأزمان. إنها قصة يحتاجها المسلمون وغير المسلمين في هذا الزمان، من أجل تفاهم أفضل، ومن أجل التعايش والتعاون بين الثقافات والحضارات. ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم في عائلة عريقة كريمة من أبرز العائلات العربية في مكة، عام 570 بعد ميلاد المسيح عليه السلام. تنتسب عائلته الى فرع بني هاشم، ضمن قبيلة قريش، أبرز القبائل العربية وأكثرها شهرة. وإذا كان موسى عليه السلام قد ربي في قصر فرعون، وعيسى عليه السلام قد ولد بأمر الله من غير أب، فإن نبي الإسلام ولد يتيما أيضا، حيث مات أبوه عبد الله في المدينةالمنورة بعد شهور قليلة من زواجه بآمنة بنت وهب، أم النبي، وهي أيضا سيدة كريمة من فرع كريم في قبائل قريش، فرع بني زهرة. كان عبد الله بن عبد المطلب، أب النبي، قد واجه الموت في مكةالمكرمة قبل زواجه من آمنة ثم وفاته في المدينةالمنورة. واجه الموت في قصة مثيرة تستحق أن تروى ولو باختصار شديد، وهي تبدأ بموقف أسبق قليلا في التاريخ: موقف عبد المطلب قبل حوالي عقدين من الزمن أو أكثر، أي في العقد الرابع أو الخامس من القرن الميلادي السادس، وهو يحاول مع ابنه الوحيد آنذاك حفر بئر زمزم من جديد لتوفير مصدر دائم للمياه العذبة بجوار الكعبة المشرفة. إن عين زمزم ترمز هي أيضا الى التاريخ الطويل الذي يربط بين الإسلام وبيت إبراهيم الخليل عليه السلام: ففى مكة نفسها قبل آلاف السنين، كادت هاجر زوجة ابراهيم أن تموت عطشا مع ابنها الرضيع اسماعيل، لولا أن سخر الله لهما عين زمزم، تجري بماء عذب زلال يروي ظمأ الأم الكريمة، زوجة النبي الكريم وأم النبي الكريم، وينقذها وابنها من موت محقق. والى اليوم، ونحن في الثلث الأول من القرن الهجري الخامس عشر، وبدايات القرن العشرين للميلاد، مازال المسلمون يحيون قصة آل إبراهيم هذه عبر ركن أساسي من أركان فريضة الحج وسنة العمرة، هو ركن السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، الجبلان المتقاربان اللذان جرت بينهما هاجر وهي تبحث عن قطرة ماء، حتى تفجر نبع زمزم بين يديها في سفح جبل الصفا، وعلى بعد أمتار قليلة من الكعبة المشرفة. طمست القرون المتعاقبة على صحراء مكة آثار بئر زمزم، ولكن عبد المطلب الذي يحفظ قصتها، والذي رأى في منامه موضع هذه البئر بين صنمين من أصنام قريش هما إساف ونائلة، أراد أن ينقب عليها من جديد متفائلا بالنجاح ومصمما على تقديم خدمة عظيمة الشأن لزوار مكة الكثيرين، الذين كانوا يحجون للكعبة كل عام، يقدمون القرابين للأصنام الكثيرة التي اتخذوها آلهة تقربهم الى الله زلفى حسب ظنهم. ومن هنا جاءت تسميتهم بالمشركين، لأنهم كانوا يؤمنون بالله لكنهم لا يوحدونه في العبادة، وإنما يشركون في عبادته اللات والعزى وأصناما كثيرة أخرى اعتقدوا أنها واسطة الى الله، وأنها تنفع وتضر، وتسمع منهم الدعاء وتجيبه. لم يكن هناك ظاهريا ما يزعج قريشا في مسعى عبد المطلب للتنقيب عن بئر زمزم، لولا أن المكان الذي رآه في منامه وأراد أن ينقب فيه، كان مكانا يتوسط وثني أساف ونائلة. خافت قريش من غضب الصنمين، واعترضت على خطط عبد المطلب رغم أنه كان زعيما من كبار زعمائها. ولم يكن مع عبد المطلب الا ابنه الوحيد آنذاك، الحارث، وما كان قادرا على نصرته وحمايته في مجتمع تؤدي فيه العصبية العائلية والقبلية دورا مؤثرا بقوة. غضب عبد المطلب من اعتراض قومه وتألم، وأدرك حاجته الماسة للأنصار من صلبه وذريته، فنذر لله نذرا أنه لو أعطاه عشرة أولاد قادرين على حمايته ونصرته، لينحرن واحدا منهم أمام الكعبة المشرفة قربانا لله واعترافا بفضله. ومرت الأيام مسرعة كما هو شأنها منذ أول الدهر. فما هي إلا سنوات قليلة حتى تحقق لعبد المطلب مراده: رزقه الله عشرة أولاد يتمتعون بالصحة والفتوة والقوة. وما أن اكتمل عقدهم بأصغرهم، بالإبن العاشر عبد الله، حتى قرر عبد المطلب أن يوفي بنذره، ويقدم واحدا منهم قربانا لربه.