ساعات بين الكتب ————— قراءة نقدية في ديوان (جراحات المطر) للشاعر فرحان الخطيب بقلم : د . عبد الله الشاهر لا أستطيع أن أحيط بهطولات الشاعر فرحان الخطيب فالمطر عامشمل كل مناحي الحياة على الرغم من الجراحات التي أدمت القلب وأدمعتالعين لكن مطر الشاعر كان غزيراً ما يوحي بغلال وفيرة سمتها الحب والخيروالقوة والفعل.. بل والتوق إلى الارتقاء الذي يحمل التفاؤل.. وعلى الرغم من الجراحات ظل الأمل معقوداً على غيث عميم يغسلالجراح كي تندمل وتشرق الشمس التي حلم بها الشاعر لتكون قيثارة الوجدوالجمال كي يصبح الوطن منارة.. فرحان الخطيب ومن خلال جراحات مطره يستنجد بالذكرياتومشاهد الحب والوفاء ويستمد من ماضيه لغة مشحونة بالوطنية والقومية فهذهالجراحات التي يراها الشاعر ستندمل وسيثري المطر بلادنا وأنفسنا ولذلكسندخل عالم ديوان الشاعر كي نسمع هطولاته .. أولاً: في العنوان: العنوان لافت للانتباه إذ فيه مفارقة واضحة (جراحات المطر) فالجراحات ألم ونزف قد يصل إلى حد تعطيل الحركة والفعل بينما المطر خيروعطاء يغنيان به الناس ويفرحون…وما بين الألم والفرح والرجاء يبدو المشهدمفتوحاً لاحتمالات شتى.. إذن العنوان انسجام بين حالتين متضادتين وهذاسرّ جاذبيته والتوق لمعرفة دواخله وقد نجح الشاعر في اختيار عنوان ديوانهوجعل المتلقي في حالة التساؤل والرغبة في اكتشاف سر جراحات مطره.. بقي أن أقول في العنوان الذي كتب باللون الأحمر.. اقترح عليك يا صديقيأن تبقي الجراحات بلونها الأحمر وتستبدل مفردة (المطر) بلون أخضر حتىيتطابق العنوان مع المضمون وأنت الذي تقول: هذي بلاد النّدى والقمحُ قامتها والخبزُ شيمتُها نعطي وتعطينا ثانياً: في الغلاف جاء الغلاف بثلاث صور متداخلة على خلفية مفتوحة بلون رمادي متدرج،والحقيقة أن الغلاف بتداخلاته يحمل دلالات واسعة وعميقة بآن معاً، فصورةالطفلة التي تستقبل المطر بفرح على الرّغم من أنّ جذعها وساقيها مليئةبالجراح، وهي مستوعبة أنها ضمنت بهاء الشخصية الكلية التي لا نرى منهاسوى هيبة حضورها وكذلك دائرة المطر الذي جاء غيثاً وودقاً والغيث استرسالوإسعاف، والورق إيقاظ وحركة وفعل..الغلاف معبّر وقراءته تأخذ الكثير منالمعاني والدلالات ولذا فإن الغلاف جاء صدى للمحتوى بكل أبعاده وهذا يعززالقراءة من قبل المتلقي.. وما قول الشاعر هذا إلا صدى للغلاف: هو المرءُ طفلٌ روّضَ الدهر حافياً ولو عاندتْ مسعاه في القيظ بِيْدُها فإنْ تخذل الأيام جدّي وهمّتي فيكفى بأنّي للمعالي شهيدُها ثالثاً: في التقديم في الحقيقة أنا لست مع تفسير الشّعر أو التقديم له لأن الشعرمشاعرٌ والمشاعر يفترض أن تقدّم نفسها بنفسها ولذا فأنا لا أرغبُ في تقديمأيّ مجموعة شعرية فالتقديم قد يصادر مشاعر القارئ ويجعله أسير نظرةالمقدّم للنص الشعري ومع هذه فإن ما كتبه الأستاذ الناقد عبد الله علي شبليشكّل إضاءة وإضافة للمحتوى بشكل عام، وهو يُشكر على ما تقدّم به من آراءناضجة حول الديوان وهذا يشير إلى مقدرة الأستاذ الناقد وتمرّسه في قراءةالنص ودلالاته وهو الذي يقول: (حينما يغدو الشعر مطراً يستنبتالعطر به استشفاء لجراحات لا تندمل) فهذا دليل على وعي جماليللنص الشعري. رابعاً: في المضمون: يبدو المضمون واسع الطيف متعدد الاتجاهات فقد جمع الشاعربين دفتي ديوانه (جراحات المطر) عواطف وهموماً وجراحات وقضايا وآمالوآلام كثيرة فكانت قصائده حالة بانورامية تسيّدها موقف الذكريات، وألمّ بهاحزن مغلّف بالأمل وتوق إلى ما كان، يقول الشاعر: يا شاعرَ الحبّ همسُ العشقِ غادرَنا أصواتنا ملأتْ أرجاءَ وادينا كنّا نُجدّلُ شَعْرَ الشمس حين ضُحىً نَزِيْنُ غُرّتَها فُلّاً وَنَسْرينا كُنّا نُخضّرُ أيّاماً نُقلّمُها حتى لتبدوَ للرائي بساتينا كنا نغالبُ ريحَ الوقت، نغلبُها واليوم تغلبنا، صَارتْ تُعرِّينا إن هذه ال (كنّا) هي غصّة في ذات الشاعر يقلّبها بين نصوصهالشعرية محاولاً إخراجها لتكون واقعاً، وهو الذي يرغب أن يستبدل مفردة(كنّا) بمفردة (أصبحنا) أو (صرنا) وهذا أمل يراود الشاعر والذي يعتبره ليسببعيد..إذاً الشاعر بنى مضمون ديوانه على ثلاثية الماضي والحاضروالمستقبل ومن خلال هذه الثلاثية دعّم رأيه بنصوص تثبت ما أراد أن يصلإليه، وسأورد ذلك من خلال: 1- الاعتزاز بالماضي والرغبة في إحيائه لما فيه من قيم وتلاحم اجتماعيومن مكارم أخلاق وقد تبدّى ذلك من خلال قصيدة (قهوة الشيخ) يقولالشاعر: من صباحات قريتي أتذكر قهوةُ الشيخ والدي فوق مجمر وهي تغلي كأنّها في طرادٍ بين أمهارِ حيّنا تتبخترْ في هذه القصيدة يستعرض الشاعر حياة القرية وحياتهالأسرية وأحلام الطفولة يسترجعها بحنين حين يقف أمام داره يقول الشاعر: بعد ستين غرّبَتْنا حياةٌ أيّ شيء للرّغد ما عاد يُذكرْ بعد ستين من سنين حياتي كل شيء في دارنا قد تغيّرْ هذه الحميمية وهذا الوفاء الذي يحمله الشاعر ويصوغه نصاًمؤثراً هو دليل انتماء يشد الشاعر إلى تلك البقاع وإلى أولئك الذين زرعوافيه ذلك الحب. 2– في كثير من قصائد الشاعر في هذا الديوان تبدو أبيات الحكمةوالعظة واضحة والتي استنبطها من تجارب الحياة وهذه الأبيات المنثورة فينصوصه أقرب إلى أن تكون بمثابة مقولة يحتذى بها وقد تجلّت هذه المقولاتفي قصيدة (جميلات عمري) حيث يقول الشاعر: هو الدّهر غدّار وما انفكّ ظالماً ويمشي على رغد الأماني يبيدها ويقرن الشاعر هذا بحالات التمني التي يعلم أنها لا تتحققولكن ذلك من باب الرجاء البعيد حيث يقول: وليت همومَ الناس تنهار دارُها ولكنْ ذئاب الدهر قهراً تشيدُها ثم يستدرك أن الأماني لا تتحقق إلّا بالعزيمة والإصرار علىالوصول إلى الطموحات الكبرى التي تتعشقها النفوس الأبية والنبيلة ، يقول : وكم يعتلي ظهر المطايا فوارسٌ وًما رجّفَ الصّحراءَ إلّا عقيدُها 3– ويبدو أن الشاعر آثر أن يكون للرثاء حضور في (جراحاتالمطر) حيث أودع الشاعر فيه قصيدتين طويلتين، القصيدة الأولى والتيجاءت تحت عنوان (فما أقساك يا خبر) وهي في رثاء أخيه الأكبر والتيمن خلالها قام بسرد قصة حياة الأخ المتوفي وفيها يقول: زيدان قالوا، فقلت الأفقُ معتكرُ يا ذا الصباح فما أقساك يا خبرُ خليتني مثل أوراقٍ تبعثرُها كفُّ الرّياح، ولم يشفعْ ليَ القدرُ أما الثانية والتي جاءت تحت عنوان (بعض الرحيل أسى)وهي في رثاء صديقه حيث يقول فيها: أيّ القصائد في ذكراك أنشدُها يا مَنْ رحلتَ تُراكَ اليوم تسمعني ؟ وكنت حمّال دهرٍ من مواجعنا وكنت موّالَ عصْرٍ طافحِ الشجنِ والواقع أن الشاعر في نصه يجيد الرثاء والبكائيات التي منخلالها يذكّرنا بمناقب من فقد. 4 – أما في الجانب الوطني والقومي فقد ترك الشاعر لنفسهالعنان لتأخذ قصائد الديوان حيّزاً لا بأس به عن الوطنية والقومية وهو الذيافتتح ديوانه بقصيدة عنوانها (دمشق) والتي يقول فيها: سألت دمشقُ الشعرَ كيف تراني ؟ فأجاب يلهج بالجمال لساني فإذا تحشّدت الزنابق بالرُّبى صرخ الجمال بمربعِ الرّيّان وتتوالى قصائده (شعلة الضوء) وهي عن الشام ويقولفيها : قلْ هي الشام لم تزل في بلادي شعلةَ الضوء والسّنا والجهاد لقد أخذت الشام حيّزاً واضحاً في نصّه الشعري من حيث هيالحب والجمال والتاريخ والعزة والكرامة.وقد عزز انتماءه بذلك الفخر والزهوالذي بدا في قصائد الشاعر عن اللغة العربية وجمالها وأصالتها من خلالقصيدة (أسئلة الأدب) وقصيدة (يا للشذا يتضوع) وقصيدة (روح القصيدوفي هذه القصيدة يقول: هي حرفنا العربي ضاء وجودنا شتان ما بين البصيرة والعمى 5 – ولا ينسى الشاعر أن يودع بين دفتي جراحات المطر عواطفجياشة عن الحب والعشق من خلال قصائده مثل قصيدة ( يا شاعر الحب) وقصيدة (جميلات عمري) وقصيدة (قلبي هناك) وقصيدة (عاشقان) وقصيدة (دفاتر اللهفة ومن هذه الدفاتر نجتزئ مقطعاً يقول الشاعر فيه: كنا معاً كفراشتين مع الضحى نغماً يدوزن عشقنا زرياب وتتفّح الخدّان ضوّأ وجهُها وتشاهقتْ عند العناق قبابُ جراحات المطر خلطة من الوطنية والقومية والذكريات والحب والعشقتداخلت فيما بينها فكونت مضمون الجراحات. خامساً: في البنية الفنية من الواضح أن الشاعر من أنصار قصيدة العمود فقد بنى نصهالشعري على وحدة البيت ذي الشطرين والإلتزام بالقافية فكان للقصيدة عندهموسيقى خاصة التزم بها وتعامل معها بجملة شعرية مسبوكة وبإيقاع خارجيطاغي في نصه الشعري وقد اختار الشاعر القافية المناسبة للموضوع فكانتقصائده بإيقاعيتها تنسجم لغة وجملة شعرية وموسيقى خارجية وقافية لتشكلوحدة كلية تحقق جمال النص.ففي الإيقاع الخارجي اعتمد الشاعر التكرارفي عدد كبير من قصائده والتكرار يأتي للفت الانتباه والتأكيد على الفكرةالتي يريد الشاعر أن تصل إلى الآخرين، فقد كرر الشاعر في قصيدة (فماأقساك يا خبر) عبارة (لو كنت) خمس مرات وفي قصيدة (أسئلة الأدب) كررالشاعر (كم) ست مرات و (نحن) ست مرات كذلك، وهذا ما يجعل الشاعر إمافي حالة استرجاع أو استذكار أو اعتزاز..كما استخدم في قصائده الإنزياحمن تقديم وتأخير وحذف واستبدال ما جعل الصورة الشعرية لديه واضحةالمعالم مفعمة بالروح الجمالية يقول الشاعر في قصيدة (يا أنتِ) : يا أنتِ يا امرأة وتبزغ لهفة وأنا بروض رهافة موعودُ يا أنتِ يا امرأة تلذًّ فصولُها كروايةٍ وختامها مقصودُ ويمكن لنا أن نذكر بعض النقاط التي يمكن أن تكون علاماتفارقة في النص الشعري للشاعر فرحان الخطيب ومنها: أدخل الشاعرمفردة (الغنج) والغنج هوالدلع والدلال وهي مفردة راقصة يقول الشاعر: بردى يُغنّجهُ البنفسجُ لهفةً والقاسيون لمجدنا عنوانُ وقد وردت هذه المفردة في أكثر من موقع في الديوان، كمااستخدم كلمة (جديلة) وهي الظفيرة وفي موقع جميل يقول الشاعر: كنا نجدّل شَعْرَ الشمس حين ضُحىً نَزِيْنُ غُرَّتَها فُلّاً ونَسرينا واستخدم الشاعر مفردة مقعّرة مثل (قِرْم) والقرم هو السيد يقولالشاعر: سوى في يديّ الفذّ إذْ رامَ قهرَها وأورى زنادَ الجدّ قِرْمٌ يجيدُها كما استخدم مفردة أقرب للعامية أو المتداولة منها إلى الفصحىمثل (شلّعتها) أي اقتلعتها يقول الشاعر: قد يبّسَ القلبَ مُرُّ البعد عن وطني كزهرةٍ شلّعتها الرّيحُ عن فننِ كما استعمل الشاعر الدمج بين مفردتين مثل (الراحتْ) ومعناها التي راحت وهو استخدام شائع باللغة الدارجة وقد تكرر هذابمفردات أخرى يقول الشاعر: ورحتُ أذكر باب الدار كم شهقتْ عين لمفتاحه الرّاحت تودّعني واستعمل الشاعر مفردات صعبة مثل مفردة (تخبُّ) والخبب حركةأسرع من المشي وأقل من الركض يقول الشاعر: للمسجد الأقصى تخبُّ جحافلٌ ويحفُّها الإنجيلُ والقرآنُ (جراحاتُ المطر) أنشودة تعددت نوطاتها الموسيقية وتعالت نفحاتهامن جوقة استطاع الشاعر أن يضبط سلمها الموسيقي بروح منتمية ولغة منسجمة