كاتب إعلامي اهتم بالقضايا الراهنة، تناولها وحاول تحليلها على أسس علمية موضوعية، خاب أمله عديد المرات نتيجة كبر حلمه وعدم استيعابه من طرف الواقع الذي يعيشه، يأمل في التأسيس لتقاليد جديدة على مستوى الممارسة الإعلامية، للانتقال بالتجربة الوطنية من مجرد النقل والتحرير إلى فضاءات النقد والتحليل، يتأسف لما كرسته النخب “المغشوشة” من تراكمات كان لها الفضل في بقائنا متأخرين عن ركب التطور، وإشعارنا بحاجتنا للآخر لدرجة أننا:”استعنا به ليعلمنا كيف نرقص في عيد استقلال بلادنا”.. تناولت آخر إصداراته قضية تتعلق بالأمن القومي، ووعد بأن يتمحور مشروعه المقبل حول إعادة كتابة تاريخ الثقافة في مرحلة الاستقلال. إذا ما طلبنا الاستفسار عن “دماء الصحراء” إلهاماته وإسقاطاته ماذا سيقول محمد بغداد؟ دماء الصحراء محاولة لقراءة الأحداث من زاوية إعلامية، ترصد المشهد العام بعيدا عن الممارسة اليومية، التي تدور في فلك تحرير الخبر ونشره أو بثه، مما يجعل الأمر مجرد دوران في الفلك الفارغ، ويحرم الإعلامي الجزائري من إمكانية تقديم آرائه وأفكاره ووجهات نظره التي تتبلور من متابعته اليومية، ومن هذا المنطلق جاء كتاب “دماء الصحراء حروب القاعدة في الساحل الإفريقي”، ليقدم وجهة نظر حول ملف مهم وخطير يتعلق بالأمن القومي للبلاد، وهي وجهة نظر تحتاج إلى الكثير من الاهتمام والنقد والإثراء، حتى ننتقل بالتجربة الإعلامية الجزائرية إلى مستوى التوثيق والتراكم، لنثري المشهد الإعلامي، ونؤسس تقاليد جديدة على مستوى الممارسة الإعلامية. قرأنا تعليقات تفيد بأنك موغل في التنبؤ وخاصة ما تعلق بزوال عدد من الدول العاجزة عن الخروج من الأزمة العاصفة بالمنطقة؟ الأزمة ليست كما يتصورها البعض، بقولهم أنها أزمة محصورة في شمال دولة مالي، وإنما هي أزمة تمتد من الصومال شرقا على البحر الأحمر، وصولا إلى نيجيريا غربا على المحيط الأطلسي، ولا تنحصر في اغتيال هنا، أو تفجير انتحاري هناك، بل أزمة عميقة ومتعددة الجوانب، وتكاليفها حسب المؤشرات أكبر بكثير من قدرات دول المنطقة التي تعاني أصلا من أزمات عاصفة، ومما يزيد الوضع خطورة، أن هذه الأزمة تأتي في وقت التحولات العالمية الكبرى التي تعصف بخارطة السياسة العالمية، مما يجعل دول المنطقة في مهب الريح، ويرشحها للزوال بسبب تداعيات هذه الأزمة. وصف البعض جديدك إلى جانب كثير من كتبك بالمؤلفات التي تنطلق من أفكار بسيطة لتثير الكثير من الجدل، ما تعليقك؟ من المهم جدا، أن ينتقل المشهد الثقافي الجزائري، وبالذات الإعلامي منه من مرحلة السطحية والمجاملات التي تساهم في الترويج للنخب المغشوشة، وأظن أن الوقت قد حان لتأسيس تقاليد جديدة تحترم الرأي وتقدر وجهات النظر، وفي الوقت نفسه، تأتي بما هو أحسن منها وأفضل، والمهم أن يكون هناك نقاش محترف بين الفاعلين في المشهد الإعلامي والثقافي، ولا يهم بعد ذلك الآراء التي تطرح بقدر ما يهمنا كيف ننفتح على بعضنا ونتعلم الاحترام والتقدير، ونتجاوز الإقصاء والتهميش، وأكون سعيد جدا إذا جاءتني انتقادات مهما كان صاحبها ومهما كان نوعها، المهم عندي أن نصل إلى اليوم الذي ننقذ فيه المشهد كله من قبضة النخب المغشوشة. نحتفل بمرور خمسين سنة على الاستقلال، والعيش تحت لواء الحرية الوطنية، فهل استطعنا تحقيق نسبة من الحرية الأدبية والفكرية خلال هذه الفترة الزمنية، وما هي المنجزات التي أثمرتها تلك السنوات؟ من طبيعة الإنسان أن طموحاته أكبر بكثير من واقعه، ولذا فإننا كجيل الاستقلال بقدر ما نكبر ونقدس التضحيات الأسطورية التي بذلها جيل نوفمبر ومن قبلهم، إلا أننا مازلنا لم نقنع بما تم انجازه وبالذات في نصف قرن، وهي الفترة التي أخرجت إمبراطوريات من العدم، وزالت أخرى من الوجود، وانتقلت شعوب إلى الصدارة بأقل ما عندنا من الإمكانيات، ومن المحزن أن تتزامن ذكرى الاستقلال بانهيار المؤسسة العلمية الأكاديمية عندنا، وتحصل الجامعة الجزائرية على المراتب الأخيرة في سلم جامعات العالم، ومن المحزن أيضا أن تتورط المدرسة في التخلف والسطحية، وتنهار عندنا المرجعيات الكبرى التي تحمي وجودنا التاريخي، إن الأمر يحتاج إلى نوع من العمليات الجراحية المؤلمة والضرورية، حتى نحمي بقاءنا في التاريخ. يُتهم المبدع في غالب الأحيان بالسباحة في ملكوت خاص ينأى به عن الحياة اليومية وهمومها، فهل نعتبره اتهاما مشروعا؟ أم أنه أكثر الناس حساسية بما حوله وأصدق ترجمة له؟ الشعوب التي نجحت في التاريخ، تلك التي راهنت على نخبها التي أدخلتها التاريخ، وحققت لها المجد والنجاح، وهذه النخب لم تعش في الأبراج العاجية، ولم تكن مجرد أجساد رقيقة تعيش في الخيال، التجربة التاريخية تعلمنا أن المثقف -وأقصد كل منتج للمعرفة- هو الذي يستطيع أن يطرح الأسئلة التي يهملها الآخرون، ويبحث عن الإجابة من الواقع وفق المنظومات المشكلة للمجتمع الذي يكون وفيا له، ومحبا لثقافته، ويسعي إلى العيش وسط نجاح الأمة وسعادتها، وقد يجد نفسه في مواجهة الانحراف أو التخلف الذي قد يطرأ على مسيرة المجتمع، وأظن أن الأمثال القريبة في تاريخنا الحديث خير نموذج من بن باديس ومالك بن نبي، وقبلهما الونشريسي وعمر بن قدور، والقائمة طويلة، هؤلاء شقوا طريق العمل التاريخي وأسسوا نموذج المبدع التاريخي، فأحلام الأمم والشعوب تحققها أفكار المبدعين التاريخيين. إذن كيف يتأثث المشهد الثقافي الجزائري من وجهة نظرك كإعلامي وباحث؟ أعتقد أن جيلنا قد نفذ صبره من تراكمات النخب المغشوشة التي جثمت على صدورنا لسنوات طويلة، واستيقظنا لنجد أنفسنا وقد حققنا الأرقام القياسية في التخلف، واكتشفنا أن كل الناس سبقونا لنبقى في المؤخرة بفضل جهود النخب المغشوشة، لقد نظمنا ثلاث تظاهرات دولية عربية وافريقية وإسلامية، ولم نتمكن حتى من جلب انتباه الآخرين في هذه الفضاءات، ولا من صناعة رسالة محترمة عن ثقافتنا، ولم نتعلم طرح السؤال، ولم نتقن صناعة الجواب، ولم نكسب من هذه التظاهرات شاعرا جهوريا ولا رساما متقنا ولا أديبا لامعا، ولا فقيها قويا، ولا موسيقيا ناجحا، حتى أننا قمنا باستيراد من يعلمنا كيف نرقص في عيد استقلال بلادنا. يشكو مبدعونا طفيليات تنخر عظم المجال وتحط من مكانته.. فهل تعد اتهامات واقعية من وجهة نظرك، أم أنها مجرد شماعة يعلق البعض تقصيره عليها؟ الأمر يتعلق بالدرجة الأولى، كوننا نعاني من مجموعة من القيم والسلوكات غرستها النخب المغشوشة فينا، فالمجاملات والعلاقات المشبوهة هي السائدة، حيث صار المثقف من اعترف به عرابو المشهد، والإعلامي الناجح من تفرضه القوى الغامضة، والشاعر الجيد من ترفعه المنابر البراقة، والمسرحي من تسلط عليه الأضواء، والمحظوظ من يملك علاقات مشبوهة وانتماءات أيديولوجية، والدليل ما نعيشه في التظاهرات الثقافية والمهرجانات الفلكلورية، وهي العقيدة التي أوصلتنا اليوم إلى عدم الحصول على احترام أو تقدير أي شعب منذ أكثر من عشرين سنة، ونعرف جميعا الأرقام التي تتضخم للمبدعين والمثقفين الجزائريين، ممن تلمع نجوميتهم وينجحون في الغرب، بعدما حاصرتهم وكادت تدمرهم النخب المغشوشة هنا. إذا ما طرقنا باب إشكالية الحداثة التي يتغنى بها كثيرون، هل نقول بأننا تمكننا اليوم من نزع عباءة التراث والبكاء على الأطلال التي لبستنا لعقود؟ أو ما زلنا ندور في فلكها؟ إذا كنت تقصدين المشهد الثقافي الجزائري، فإننا لحد الآن لم نشرع بعد في تناول مثل هذه الإشكاليات، والذين يطرحون الحداثة عندنا لا يعرفون التراث ولا يتقنون الحداثة، فأين هي مظاهر الحداثة بداية من الإبداع والأفكار وانتهاء بالسلوكات، وأين هو التراث بداية من الانتماء إلى الممارسة، نحتاج إلى تأسيس قواعد جديدة تنطلق بإعادة الاعتبار واحترام التعليم وتقديس المدرسة، مرورا بما يقدم في الجامعة، وصولا إلى ما ينتج من إبداع، والدليل أن الجامعة الجزائرية ما تزال في دوائر الجابري، وطه عبد الرحمان، وحسن حنفي، وتيزيني، ومروة، دون أن نتمكن من مجرد الاقتراب من هؤلاء الذين تم تجاوزهم من طرف الكثيرين، والمكتبة الجزائرية لا تحتوي على عشر تراثنا ولا خمس أدبيات الحداثة. وماذا تقول أستاذي عن مرحلة ما بعد الحداثة بمميزاتها وشوائبها؟ لكل مرحلة من تاريخ البشرية سلبياتها وايجابياتها، والمهم ليس في الصفات والنعوت التي نطلقها ولكن في كيفية الإجابة عن السؤال المهم، المتمثل في هل نحن نعيش في التاريخ، أم نتيه خارجه؟ لأن الحداثة في مفهومها البسيط هي التحضر والإبداع والتفوق والنجاح، وهي التطور العلمي والتقني والارتقاء الأخلاقي، والسمو الروحي، والمؤسسات المنتجة والفعالة، وقبلها الإنسان الحقيقي وليس الشخص العادي، كما يقول بن نبي، المشكلة أننا ندور في فلك المعيارية والسذاجة، وتعودنا على التخلف، وانظري معي إلى أبسط مظاهر ذلك بداية من النشاطات الثقافية إلى الجمعيات إلى المنتوج الثقافي والاجتماعي بصفة عامة. كثر الحديث عن السياسة الثقافية الوطنية، وتضاربت الآراء بين مؤيد وراض ومتذمر وراغب في غد أفضل، فهل تجد أننا استطعنا إلى غاية يومنا الحالي بناء أو التأسيس لمشروع ثقافي جاد وفاعل يبتعد عن الفلكلور والصراعات الإيديولوجية ومنطق التسطيح؟ ما تسميه السياسة الثقافية اعتبره مصطلح مهم وكبير في الوقت نفسه، وكما أعرفه أن السياسة الثقافية تنطلق من حاجات المجتمع وتعمل على الإجابة عن أسئلته، وتزيل من طريقه العقبات وتنتج فيه العبقرية والفعالية، وتفتح له آفاق الأمل وتدفعه إلى استعمار المستقبل، وهي السياسة التي تقوم على إرادة جماعية وتشارك فيها كل الأطراف الحية في المجتمع، بمسؤولية واحترام لقيمة الإنسان والزمن، ولكننا نعيش مرحلة التيه الثقافي، فالذين لا يملكون من المواهب والقدرات العادية هم الذين يقودون هذا المشهد، ويقصون كل صحفي محترم، أو فنان ذكي، أو مثقف جاد، فلم نسمع يوما البرلمان الجزائري فتح نقاشا حول السياسة الثقافية، ولم نشاهد استشارة هؤلاء قبل تنظيم تظاهرة أو إقامة فعاليات ثقافية، ولهذا جاءت النتائج لتقول أن أغلب شباب الجزائر يفضلون الموت في البحار على البقاء في البلاد. كم يلزمنا من وجهة نظرك لتثبيت أقدامنا حتى نسير في درب بناء سياسة واضحة الملامح، بعيدة المرامي الواسعة الأفق؟ - المشكلة ليست في الزمن، ولست مؤهلا لتحديده، ولكن متى نتفطن إلى ضرورة الوقوف في وجه النخب المغشوشة، ومتى ننتهي من احتقار بعضنا البعض وإقصائنا لجهودنا، ومتى ننهي التلاعب بمصير البلاد، عندها يمكن الحديث عن سياسة ثقافية محترمة، وستكون ملامحها يوم نتقن الإبداع ونقدم الجيد فينا، ونرتقي إلى مستوى الاحترافية ويعرف كل واحد منا أنه جزء من التاريخ ويتحمل مسؤولية ما ينجز من أعمال، وستكون النتيجة عندما نرفق القبيح، ونعلن بشاعة الفشل، ونعيد للإنسان مكانته في المجتمع. هل تفكر في مشروع تعد به قراءك بعد “دماء الصحراء؟” أتمنى أولا، أن يجد كتاب “دماء الصحراء” ما يناسب موضوعه من النقد والنقاش، كون الأمر يتعلق بالأمن القومي للبلاد، والتي سأستفيد منها وربما تمكنني من مراجعة أو إثراء بعض ما ذهبت إليه من أراء ووجهات النظر، وبالذات من الزملاء الإعلاميين والمثقفين، الأمر الذي نحتاج إليه في المشهد الثقافي، وأتمنى أن يكون لبعض الزملاء مساهمات أفضل وأجود، وإذا كان في العمر بقية خير سيكون معها مشروع إعادة كتابة تاريخ الثقافة الجزائرية في مرحلة الاستقلال، الذي يتطلب مني كثيرا من الجهد واستفراغ المزيد من التعب.