من حيث الشكل؛ فالقصيدة التي بين يدينا " أنّات ناي " هي من شعر النّثر، وقد قسمتها شاعرتنا إلى ثلاثة عشر مقطع شعريّ تترتوح احجامها بين السطرين والسبعة اسطر على تفاوت عدد كلمات كلّ سطر... الموسيقى الداخلية والخارجية واضحة جدا في هذا النص من خلال المعاني والكلمات والتعابير المستعملة ومن خلال المدّ المفتعل في آخر كلّ مقطع وكأننا نردد سمفونيةً شعريةً لا قصيدةٍ كقولها:تميد، تسير،تنزيل، وكلمات المدّ الأخير كقولها: سلام، أرقاما... ولم تلتزم شاعرتنا بقافيةٍ موحدةٍ لا من حيث الشكل ولا حتى التركيبة، اذ بنت على أساسات احساسها بالمفردات وتناغم شعورهامع التعبير لآخر حدّ... من حيث المضمون؛ تطالعنا الكاتبة المتميزة عليا العيسى بقصيدة جديدة تحمل عنواناً... أنّات ناي... هذا العنوان الكفيل بأن يشدّ كلّ القراء إلى سبر أغوار النص والتمرّغ بين أبجدياته والسّفر بعيداً إلى فضاءات بلغتها الكاتبة في خيالاتها ... أنّات ناي ؛ عنوان متميّز كفيل بالدهشة واعمال المخيلة منذ المعنى الأول ... فالموسيقى تبدأ بالعزف داخل مخيلة وعقل كل منّا , فكلّنا يعلم الصوت الرائع الشاعريّ الحساس للناي اذ أنّه يكاد يكون الآلة الحساسة الأولى في العالم , آلةّ قد تشعر أنّها تبكي من فرط الاحساس وألم المشهد المعاش.... غالباً ما يحمل صوت النّاي شعور الألم وهذا ما أرادت كاتبتنا أن نبلغه في مستهلّ قصيدتها محور كلامنا... وقوفّ على أطلال القدر تبدأ به شاعرتنا قصيدتها , متمثّلةً بأسلافها من شعراء الأدب القديم في العصر الجاهليّ وما بعده , مع أنّ شعر النّثر لا تحكمه ضوابط ذلك الشعر , إلا أنّ شاعرتنا قد تشبّثت بابتهالات القدماء ووقفت عند حدود الذكريات ...تنادي العابرين من هذه الحياة , المودّعين لما نحن فيه والذين هم في اننتظارنا في الحياة الأخرى... بدايةً ملؤها الألم... وكأنّ الشاعرة تطلب منهم القدوم أو تسألهم عن تسهيل مرور للرحيل ... وكأنّ الموت يتطلّب تأشيرةَ من العالم الآخر وكلّ الذين تأخروا إنّما ردّهم قلّة الزاد فلم تكفهم رحالهم ولا ما احتوت رحالهم للوصول إلى برّ الموت.... ومن ثمّ تتابع فتسأل العاشقين .. هل وجدتم بديلاَ عن ثمالة هذيانكم الذي أدمنتم عليه سابقاً, هل وجدتم ما وعدكم الموت حقا!!! هل أحببتم حياتكم الأخرى وتركتمونا في هذياننا الوجودي... ؟ هل شربتم من كأس سكر طابت لكم لذته فسررتم ببعدكم عنّا ... هيا خذوني إليكم ... لم لا تفعلون؟؟؟؟ . كلّها تساؤلات تطرحها الشاعرة في خضمّ السطور الأولى من قصيدتها .... حتّى تتابع بطرح البدائل لا لشيئ إلا للوصول والبقاء مع من تحب... فتتمنى لو أنّها شيئ يخفّ حمله ويسهل نقله في أكفان الرحيل فبدأت بكسرة الخبز ومن ثمّ حفنة القمح ومن جينما انتبهت إلى أن الكفن لا يحوي جيوباً أنهت الاختمالات ب ... بعض حروف ادغام ... وكأنها تقول خذني بصوت الحرف .. صوت الحزن وصوت النّاي لو شئت ....خذني وحتى بغنّة الادغام في اصداء اصواتك الماورائية, تتابع شاعرتنا قصّة حروف الادغام تلك وكيف أنّ قداسة رونقها قد تنبئ بالكثير من الحكايات, وهنا تحلق شاعرتنا فوق حدود أجنحة الشرانق في الخريف؛ صورة قد تحمي لنا ألف ألف حكاية فالشرنقة لا تطير وجوانحها هشةً لا زالت , وفصل الخريف هو فصل الاصفرار والذبول والهواء الذي يرمي بالأوراق على الأرض , ومع ذلك , وهنا يظهر التحدي, تتحرّك حاملةً طموحها بافتراش الريح أرضاً, المهم أن تصل إلى المقصد متأوّلةً آيات الألوان .... شاعرتنا في هذا النص لا تريد سوى أن تكون مع الغائبين عن بصرها وحياتها وتريد أن تنتقل إليهم بأي ثمن ... حتى لو أنّها ستسير بدرب لا رجعة منه وقد تحمل معها كفنها المزمّل بالكافور وهي تؤكد أن لن يسد جوع رغبتها سوى اللقاء , ومن ثم تنتقل الشاعرة للنداء... والمدح الراقي وكأنها تخبر أن مواصفاتكم التي امتزتم بها غير موجودة بعدكم , فأنّا لي البقاء وأنتم لستم هنا... يا صاحب الصمت القدسي, وصاحب البلاغة المترامية , وذا العدل والإيمان و و و و و و ... تصفه لنا وكأنّه وليًّ من الأولياء وهنا تتجلى النزعة الصوفية في قصيدة أنين الناي, فكما يطوف الدرويشيّ بصومعته بطقوس ابتهاله التي يكررها مراراً مراراً , نرى تكرار الرغبة بالملازمة والرحيل ترافقنا من سطر إلى آخر في هذه القصيدة الراقية...تصل إلى أن تقول تقول يا ليتني ظلًّ مع من طاف ,... اذ أنّ شاعرتنا تتخفف شيئاً فشيئاً من الحياة من الوقائع ومن كلّ ما قد يبعدها ... هي ترجو مدارج السالكين ومتعة المقرّبين , حتّى أنّها اذ انتقلت من اللحاق بهم موتاً إلى الاقتراب منهم قداسةً , فتعرج في سفر التنزيل لتختزل الكون وترتقي فوق أقطاب أجزائه بعد أن سافرت عبر الزمن والمكان لتطوف بجبل طوى .... لم تعد تريد شاعرتنا الحياة التي هي فيها وتدرك في كينونة نفسها أنّ درب القداسة مثقلً بالعوائق البشرية التي تحدّنا به ماديتنا التي خلقنا فيها, فتتخفى عن البشر لتكون نواةً تثمر من مطر الدعاء في أرض الطيب وتبلّغ حروفاً و أرقاماً.... وتتابع شاعرتنا التجلّي بمقامات التصوّف واحداً تلو الآخر نحو رعشة القنوت , وسكينة الصلاة حتى البعث في الواقع كما مشهد يوم القيامة, من التراب , تنبت من اشراقة الذكر الذي اختصر كلّ العبادات في ذكرى بخور الأئمة السابقين... ومن ثمّ العودة من فانوس الحرف الذي لا يستكبن فمنه خرجت ومنه عادت وفي جوهره نبض الحياة. وبعد كلّ هذه الاشراقات النيِرة في سماء النّص، لابدّ من ذكر بعض الملاحظات والأمور التي قد تؤخذ على شاعرتنا في هذه القصيدة؛ أوّلاً مع العنوان ، اذ أنّ القارئ ينتظر في قراءته للنص أن يجد الحزن والأسى والتأمّل في سكونٍ باهت اللحظات ، أمّا شاعرتنا فكانت في نصّها في حركةٍ حزينة واشتياقٍ مرّ ورغبة بالهروب من حياةٍ إلى الحياة، فالسكون الذي أدخلتنا به من مطلع القصيدة قضّ مضجعه حركاتٌ وذهابٌ مع اياب من والى المحبوب في ارض غير التي نعرف.... ثانياً مع بنية النص؛ فالمعاني المستعملة في النصّ دسمةٌ جدّاً تقترب أحياناً لتكون سوريالية البنية ، والقارئ سيجد صعوبةً في ربط الافكار بعضها ببعض في النص، وحتى الانتقال من صورةٍ لأخرى أثناء استماعه للىهذه القصيدة مغنّاةٍ أو ملقاة ... إنّ دسامة المعاني أوجدت قوةً وثقلاً في المصطلحات المستعملة الأمر الذي قد يثقل كاهل القارئ ويصيبه بالتعب أثناء استماعه لهذه القصيدة، وبالمقابل فقد يتفلّت المعنى بكليّته أو بجزئيته أحياناً من الشاعر دون الانتباه وهذا الذي حصل في بضعة أماكن من القصيدة؛ فقد كنّت الشاعرة مرّتين عن قداسة الصمت في نفس المقطع بقولها: "يا من كان سكونكم... الى قولها: ميزان صمت" والانتقال بالوصف من الصحراء والرمال والحرّ، إلى الجبل والتفيّؤ والظلال.... الأمر الذي قد يصيب القارئ بازدواجية مشاعر حين القراءة والتركيز بهذه المعاني....
أناتُ ناي
أيها العابرون أجسادَهم بالموت هل كفافُ صيامكم من أثقلَ جعبة الرحيل ؟
ياعاشقين و ما ردّكم عن ثمالةِ هذوكم بديل !
خذوني معكم ... مجازا كَسرةَ خبزٍ حفنةَ قمحٍ أو ربما بعضَ حروفٍ إدغامٍ