حين تبدي شريحة واسعة من المواطنين عزوفها عن المشاركة السياسية، فهي لا تكف عن ممارسة السياسة من خلال منافذ أخرى، لعل أهمها إبداع أشكال جديدة للسخرية من سلوك النخبة السياسية. سخرية تغذيها رحابة الإنترنت في توفير برامج وأدوات لتصميم وإبداع ردود أفعال تمزج بين الطرافة والمرارة! وضع كهذا يفرض طبعا بذل جهد كثيف لاستعادة ثقة المواطن والتصدي لمجمل الاختلالات التي تعيق إشراكه في تحديث وتطوير الأداء السياسي. يأتي الالتباس القيمي الذي يطبع مواقف النخبة السياسية وتصريحاتها في مقدمة هذه الاختلالات. فالسماح للأكاذيب بالتسلل إلى ثنايا القول السياسي أنتج خطابا مشوشا وساذجا، وحول المشهد السياسي إلى فضاء للغو وتبادل اتهامات سخيفة ودعوات للإقصاء والتخوين ورمي الآخر في البحر! لماذا يكذب السياسي؟ إن الكذب في الحياة اليومية انحراف عن النسق الأخلاقي، لكنه في السياسة جريمة. هذا ما عبر عنه خبير الشفافية الدولي الأمريكي مايكل هيرشمان في معرض رده عن سؤال حول كيفية محاسبة المسؤول الفاسد. فالكذب من قبل السياسي أخطر من جريمة الفساد التي يحاسب عليها القانون، إذ أن السياسي عندما يكذب يحاول تحقيق مصالح خاصة بطرق غير مشروعة. يكذب السياسي حين تتعارض الحقائق والوقائع مع قائمة الوعود التي وزعها حتى يتمكن من الإنابة عن المواطنين في تدبير شؤون حياتهم. وما تكشفه المواقف المتضاربة بشأن تحليل علمي وموضوعي للحالة الاقتصادية والاجتماعية على سبيل المثال، يكفي لأن يثير لدى المواطن العادي شعورا بالتقزز من سياسيين يغيرون مواقفهم كما يغيرون معاطفهم، فقط ليثبتوا أنهم دائما إلى جانب الصواب. لذا لم يعد مستغربا أن يوزع السياسي مدائحه على نفس الهيئة أو المنظمة التي كال لها الشتائم والتهم منذ زمن يسير، معتمدا على براعته في التلون القيمي وعلى تدني مستوى التفكير والتحليل لدى الشريحة التي أنابته! ويكذب السياسي حين يزعم أن ميله للعنف الخطابي واعتماده لغة الشارع دليل على انحيازه للبسطاء، وانبعاث خطابه من أغوار الفقر والجهل والآلام الإنسانية. فالسياسة ظاهرة ثقافية في جوهرها، بل إنها مستحيلة بغير ثقافة مادامت القوة السياسية ترتكز إلى حد كبير على التوقعات والاتصالات والقيم المشتركة. بينما الحقيقة أن هذا النزوع يأتي كتعبير عن ضعف الموقف السياسي ومستوى التكوين المعرفي. بل إن دحرجة القول السياسي إلى أسوأ مراتبه تمنح صاحبه مشتلاً لبذر الأحكام الانطباعية المغلوطة والاتكاء على أسانيد واهية لشرعنة الفوضى. ويكذب السياسي حين يغذي الكسل الداخلي للمواطنين بأجندة تبيح خلودهم إلى الراحة في الوقت الذي يتولى هو إدارة معارك الديموقراطية والشفافية والعدالة الاجتماعية. فليس مطلوبا، برأيه، من المواطن سوى أن يمنح ولاءه السياسي وصوته الانتخابي، ثم يعود إلى فراشه الوثير مترقبا موعد هبوب الخيرات وجمع الغلال. ولعل ما يحمل الناس على التصديق اعتقادهم أن الفرق بين السياسي والمواطن العادي من حيث القوة والدهاء والمناورة غير قابل للمناقشة، في حين أن هذه الفروق هامشية جدا، ولا توجد إلا بسبب التصورات المشتركة حول القدرات العجيبة للسلطة. إذ أن الطابع المراوغ للسياسة ناشئ عن المفهوم المتعلق بالسلطة وقدرته على تحريض الخيال البشري، فمنذ عملية التأهيل الاجتماعي في فترة الطفولة ينمي لدى الناس خيالات متعلقة بالأفعال السحرية للسلطة، كما يغلف رموز السلطة بنوع من كليانية القدرة التي تتحدى المنطق البارد. ويكذب السياسي حين يُنشيء روابط غير واقعية بين تحسين الدخل الفردي والوضع الاجتماعي، وبين مطامح الأمن والسكينة والتوازن الروحي. بل إنه لا يُضمن خطابه السياسي أسانيد وأطروحات يُمكن أن يُعتد بها لتأكيد أو نفي المزاعم بشأن قدرة السياسة، إلى جانب الاقتصاد، على تجسيد يوتوبيا حالمة لم تغادر بعد رفوف المكتبات! في تشريح حاد ومؤلم لأعطاب المجتمع الأمريكي في القرن الحادي والعشرين، يعزو دون إيبرلي معظم المشاكل الأمريكية إلى فشل الرهان على السياسي في مواجهة ظواهر تتطلب القوة الروحية واستعادة دور المجال الثقافي والأخلاقي... ويكذب السياسي حين يعمد إلى إثارة المخاوف لمواجهة غريمه وإقصائه من معترك حيازة الثقة. فالخوف، كما يؤكد عالم الاجتماع فرانك فوريدي، أصبح قوة مهمة في التأثير على الخيال العام في العالم. وإذا انضاف إليه الاستئثار المنظم بالمعلومات والحقائق من لدن السلطة الحاكمة تبين لنا حجم الضرر الذي تلحقه الشائعة السياسية وما يترتب عن بث الذعر بين المواطنين من اضطراب وبلبلة، وفي أحيان كثيرة قيام صراعات اجتماعية. هنا لا يُعتبر الكذب ذريعة لغرض نبيل، كما يزعم حواريوه في المجال السياسي، بقدر ما يكون له مفعول العبوة الناسفة. وأخيرا يكذب السياسي حين تداهمه متغيرات ومنعطفات كبرى يشعر معها بتداعي شرعيته السياسية، وبأن أوراق اللعب كلها تتناثر من بين أصابعه. فلا يجد من وسيلة لإثبات حضوره واستمراريته سوى العودة إلى العصبية الضيقة، وتغذية الميول العنصرية والطائفية والمذهبية. يعقد الدكتور يوسف أسعد في كتابه الماتع (الكذب وأثره في الإنسان) فصلا طريفا عن الكذب والحضارة، يكشف من خلاله أثر التطورات الحضارية المتسارعة على كافة جوانب الحياة الإنسانية. ومما استنتجه الدكتور، بعد معالجة سيكولوجية للكذب في مختلف مراحل النمو الإنساني، أن هذه التغيرات الشديدة والمتلاحقة عززت تغلب القيم النسبية على القيم المطلقة. فلم يعد هناك صدق مطلق في كل ومكان وزمان، بل هناك كلام يُصاغ في ضوء المتطلبات الملحة، ولخدمة المصالح، وجلب المنافع. فالكلام الذي يفضي إلى أكبر قدر من المنافع، ويقي من أكبر قدر من المضار هو ما ينبغي أن يقال. وبتعبير آخر فإن الصدق صار صدقا سلوكيا، وليس صدقا لفظيا. بمعنى أن الحنكة السياسية مرتبطة بمدى ما يترتب عن الخطاب من نتائج مصلحية بغض النظر عن صدقه أو كذبه! إنهما روحان تسريان في ثنايا القول السياسي، وتزينان له تقويض أركان الثقة التي بدونها لا يقوم لأي نظام ديموقراطي قائمة: روح ميكيافللي الذي همس بخبث في أذن أميره، سليل أسرة آل ميدتشي قائلا: (إذا نظرنا للأمور نظرة صحيحة لوجدنا أن بعض ما يبدو فضائل قد يهلكنا لو طبقناه، والبعض الآخر الذي يبدو من الرذائل قد يسبب سلامة الإنسان وسعادته) والأخرى روح جوزيف غوبلز وزير الدعاية السياسية في حكومة هتلر النازية. مبدع الكذب المبرمج والرمادي، وصاحب المقولة الأكثر شيطنة في عالم السياسة (اكذب واكذب واكذب حتى يصدقك الناس). روحان تغذيان هيمنة المنفعة على النبل الإنساني، وتدفعان بالعمل السياسي إلى الحضيض. هل يجب على السياسي أن يتحرك داخل حدود المفاهيم الأخلاقية؟ سؤال يصنفه جلين تيندر ضمن الأسئلة الأبدية للفكر السياسي، فالسياسة هي أظلم منطقة في وجودنا الجماعي والتاريخي، والقيادة السياسية لا هم لها سوى تشكيل العقول والتأثير على السلوك لتحقيق أفكار متصورة سابقا. قد يكون للسياسي ذرائعه في تحطيم البناء القيمي باسم المصلحة تارة، وتحديث الممارسة السياسية تارة أخرى، لكن ما نخشاه حقا هو أن يؤدي انهيار الثقة إلى انبعاث جيل من رحم اللاسياسة، جيل يتأرجح بين اللامبالاة والتقويض المجنون لدعائم المجتمع الإنساني. * عن موقع طريق الإسلام -بتصرف-