حظي فيلم Hereafter (الآخرة) للممثل والمخرج كلينت إيستوود (وهو الفيلم ال31 الذي يخرجه خلال أربعين عاماً)، بترحيب الجمهور خلال عرضه في لينكولن سنتر في ختام مهرجان نيويورك السينمائي نهار الأحد الفائت. في اليوم التالي، كان إيستوود يتسكّع على مقعد خارج صالة عرض الأفلام في شركة «وارنر براذرز» حيث كان أعضاء من المجلس الوطني للنقد (مجموعة في الولاياتالمتحدة تمنح جوائز سينمائية) يشاهدون فيلمه الجديد في الداخل. الفيلم من بطولة مات ديمون بدور وسيط روحيّ مزاجيّ، وسيسيل دو فرانس بدور مراسلة تلفزيونيّة نجت من تجربة شبه مميتة. على رغم العنوان الذي يحمله والموضوع الذي يتناوله، لا يُعتبر الفيلم نوعاً من التأمل بما يحصل بعد الموت، لكن كمعظم أفلام إيستوود التي أخرجها خلال العقد الأخير، يأخذ الحبّ فيه مكانة خاصة. أمام صالة العرض، وقف إيستوود بسترته الرماديّة وقميصه الزرقاء التي تعكس بريق عينيه، وهو يبدو مرتاحاً ومفعماً بالقوة والنشاط على رغم بلوغه الثمانين من العمر. وفيما اعتزل كثر من عمره العمل، يتابع إيستوود إخراج الأفلام. وقد صرّح الى مجلّتي Modern Maturity وMaxim: «لا أفكّر في التقاعد، ما زلت أتعلّم الكثير». أفضل مخرج لا يشبه إيستوود في مسيرته المهنيّة أيّ شخص آخر في هوليوود فهو النجم السينمائي المفضّل في الولايات المتحدّة وفق إحصائيات عام 2010 (على رغم أنه أصرّ على أن Gran Torino سيكون آخر عمل يؤديه)، كذلك، هو أحد أفضل المخرجين فيها وأكثرهم شعبيّة. يقول المحلّل بول ديرغارابديان الاختصاصي في هذا المجال: «كلينت إيستوود هو المعيار الذهبي»، إذ حققت أفلامه:Space Cowboys وMillion Dollar Baby وGran Torino أرباحاً طائلة بلغت ما يقارب ال100 مليون دولار. وحصد Mystic River 90 مليون دولار. تصرّح جانين بايزينجر، مؤرخة الأفلام وعضو في المجلس الوطني للنقد: «يستطيع إيستوود القيام بكلّ شيء بمفرده. هو منتج وممثل ومخرج، ولامع في دمج التأثيرات الخاصة وأساليب سرد القصص التقليديّة في أفلامه، لقد حظي بحياة مهنيّة مدهشة، ولم ينتهِ بعد». حين يريد إيستوود اختيار نص الفيلم، يعوّل على قاعدة واحدة فيسأل نفسه: «هل أرغب في مشاهدة هذا الفيلم؟». عندما تحدّث المخرج ستيفن سبيلبرغ إليه هاتفياً، وقال له «لديّ نص لفيلم مثير للاهتمام»، وافق إيستوود (الذي تقدَّم إليه دائماً عروض مماثلة) على إلقاء نظرة إليه. بعد قراءة بعض الصفحات من النص الذي كتبه بيتر مورغن حول الوسيط الروحاني المتردد والفتاة التي نجت من التسونامي، وجد إيستوود نفسه «يتعاطف مع هذه الشخصيات». بعد الاطلاع على موضوع الفيلم، لا بدّ من أن تتساءلوا: «هل يؤمن إيستوود بوجود حياة بعد الموت؟». يجيب عن هذا السؤال بصوت خافت وأقلّ خشونة مما يظهر في التلفزيون: «لا أعلم، لكن حتى لو لم أكن أؤمن بوجود حياة بعد الموت، ترسّخ إماني بذلك بعد إخراج هذا الفيلم». يضيف إيستوود الذي أدى دور ملاك الموت المتمرّد في فيلمَي Pale Rider وUnforgiven: «لا أرى أن الله يريد أن يحاسبنا لارتكابنا الأخطاء، تكمن اعتقاداتي الروحانيّة في أنه على الإنسان أن يقدّم أفضل ما لديه وهو موجود على الأرض». Hereafter جزء من مجموعة أفلام أخرجها إيستوود حديثاً وترتبط مواضيعها بالفناء، لكن هذا الأمر لا يتعلّق بسنّه المتقدّم. في هذا الصدد، يقول إيستوود: «لا شكّ في أني عشت حياة طويلة، لكن لو توافرت لي الفرصة سابقاً، لكنت أخرجت هذا الفيلم وأنا في الأربعين من العمر، إذ إنني أحببت جوهر قصّته». ويضيف إيستوود: «لم أمرّ بتجربة شخصيّة خارجة عن الطبيعة، باستثناء تنبؤات صغيرة، حين تريدون الاتصال بأحدهم، فيرنّ الهاتف ويكون هو المتّصل». مشاعر قويّة لعلّ أفلام إيستوود ترفع النقاب عن حياته الشخصيّة، فهو يستوحي منها لإخراج الأفلام لكن ليس في سبيل الانغماس بالملذات، بل لأنه لا يستطيع أداء دور ما إلا إذا حرّك فيه مشاعر قويّة. في أوائل السبعينيّات، أخرج إيستوود فيلمَيّ Play Misty for Me وBreezy حول رجال في متوسّط العمر يستمتعون بالملذات، حين كان هو يقوم بذلك أيضاً. فضلاً عن ذلك، أخرج فيلم Bird عن عازف موسيقى الجاز تشارلي باركر وفيلم White Hunter, Black Heart حول المخرج جون هيوستن، المتميّزين بميلهما نحو التدمير الذاتي، في الفترة التي كان يحاول فيها إيستوود تحديد نفسه كفنان. ثمّ أخرج فيلميّ Space Cowboys وGran Torino حول رجال مسنين ينتهزون الفرصة لإثبات أنفسهم، حين أصبح شخصاً محترفاً يحاول فرض نفسه في هذا الميدان وقد شكّلت تلك الرجولة، سواء كانت جريئة أو متهورّة موضوعاً تمحورت حوله مسيرته المهنيّة. أما في ما يخصّ الطرق المهنيّة التي اكتسبها، يقول إيستوود: «تحصلون في البداية على دور في مسلسل تلفزيونيّ (Rawhide)، وتعملون مع مخرجين كثر، فتتعلّمون كيف تجمعون في فيلم واحد وجهات نظر مختلفة. لاحقاً، يجمعكم عمل ما مع مخرج إيطاليّ (يشير الى المخرج سيرجيو ليوني)، فتتعرفون الى أفلام وسترتن الأوروبيّة من منظار أميركيّ، من ثم تعملون مع أشخاص آخرين، وفي النهاية تحصلون على فرصة لتنفيذ عملكم الخاص. تدركون أخيراً أن الأمر لا يتعلّق بوجهات النظر بل بكيفيّة سرد الحكايات وبالحماسة التي يتّسم بها الفيلم، وتحرزون في نهاية المطاف خطوةً بارزة». لم يكن إيستوود يرغب في أن يصبح مخرجاً، نظراً الى تسلّط المخرجين الذين عمل معهم. لكن راودته فكرة الإخراج وهو في أواخر الثلاثين من العمر، إذ وجد فيها وسيلة لإعالة أسرته، بعد أن يسأم الجمهور من مشاهدته، لكن هذا الأمر لم يحصل بعد.