هذا أمر نفهمه جيداً، ولذلك نهتم بالنصوص الشرعية التي تميز لنا بين الصيام والصلاة بمفهومها الشرعي ومفهومها العام. وهذا الفهم نابعٌ عن حقيقة، وهي أن الدين إنما هو المعنى الشرعي وأننا متعبدون به دون غيره. الفقهاء لمعرفتهم بهذه الحقيقة، ووضوحها لديهم جعلوا من صميم مهمتهم التفريق بين المعنيين العام والشرعي. ولذلك جرت العادة عندهم في بداية كل باب الاستهلال بهذا الأمر ولديهم صيغة - لها دلالتها على ما نحن بصدده - في التعريف الشرعي، تكاد تكون موحدة، سواء كان ذلك التعريف للصلاة أو الصيام أو الزكاة، قولهم: فعل مخصوص، أو وقت مخصوص، أو مكان مخصوص. أي تم تخصيصه من المعنى العام، والذي خصصه هو الشارع، وما يأتي بعد التعريف من تفريعات ومسائل وشروط وضوابط، كأنما هي شرح لهذا التعريف، وبيان له. ما يمكن قوله الآن إلحاقاً له بما سبق، هو أن الجهاد - أيضاً - ليس هو مُطلق القتال. وهذا ما أعتقد، أنه عندنا ليس بوضوح وفهم ما مضى، أي أن الجهاد هو الآخر قتالٌ مخصوص. كما أننا نفهم أنه لا يصح أن نصلي أو نصوم أو نزكي بناء على الفهم العام، فكذلك ينبغي أن نعرف أنه لا يصح لنا ولا يجوز أن نقاتل بناء على الفهم العام. الشرع لم يأت ليشرّع القتال ابتداء، بل القتال نزعةٌ بشرية موجودة منذ الأزل، وإنما الذي جاء به الشرع هو تهذيب هذه النزعة، وبيان متى تكون، وكيف تكون؟ ولمعرفة هذا لا يكفي التمسك بظواهر النصوص الداعية للقتال، أو ترديد القواعد العامة، ولو كان الأمر كذلك لما امتاز العالِم من غيره. وإنما الشأن كل الشأن في فقه التنزيل، تنزيلِ هذه القواعد والنصوص على الواقع، وهو ما يسميه الأصوليون تحقيق المناط وفقهَ المآلات، معرفة ما يؤول إليه هذا التنزيل من جلب مصالح ودفع مفاسد. وهذا باب من العلم لا يحسنه آحاد الناس بل هو (مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جارٍ على مقاصد الشريعة) كما يقول عنه الشاطبي في الموافقات. عدم وضوح هذا الأمر، أفرز لنا، استناداً وتمسكاً بظواهر النصوص، من يعتقد أن إقامة القتال مقصودةٌ لذاتها، في كل زمانٍ ومكان، بصرف النظر عما تؤول إليه الأمور، وما يتحقق من مصالح، أو يقع من مفاسد. الاهتمام بالعلم بهذا المفهوم وجعله الجهة الرقابية على الحركة الجهادية هو الضمانة الوحيدة التي تجعلنا نصيب مقصود الشرع في جهادنا، فإن فعلنا كان النصر والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وإن لم نفعل وقع ضد ذلك، وهذا ما لا يرغبه أحد. وهي أيضاً صورة من صور الاستسلام والإذعان لمراد الله والخروج عن داعي الهوى، سواء هوى الفرد أو هوى هذه الجماعة أو تلك، وخروج المكلف عن داعي هواه، من مقاصد الشريعة، كما ينص على ذلك العلماء. وأن نُصيب مقصود الشرع في كل أعمالنا، معنى هذا أننا أصبنا الخير والعدل والحكمة. يقول الشاطبي _ رحمه الله _ ما مضمونه : (قصد الشارع من المكلف أن يكون قصدُه في العمل موافقاً لقصده في التشريع ... وهو قد قصد لمصالح العباد على الإطلاق والعموم والمحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشرع، فإن ذلك مقتضى كونه عبداً لله، وخليفة لله في إقامة هذه المصالح). الجهاد عبادة، بل من أعظم العبادات وأجلها، وكغيره من سائر العبادات يتطرق له الفساد والبطلان فإن لم يقع على الصفة التي أرادها الله وإلا فهو رد. وما أحسن ما نقله ابن القيم عن الحسن البصري رحمهما الله: (.. فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على مافعلوا) مفتاح دار السعادة.