بقلم: ياسر حارب بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت جُمْلة من التيارات الفكرية والفلسفية، التي نَبَتَت بعضها في القرن التاسع عشر، إلا أن إرهاصات مرحلة ما بعد الحرب، والدمار الذي خلفته على الأرض وفي نفوس الناس أدخلهم في حربٍ أخرى. ولكن داخلية، بين الإنسان وبين نفسه، فظهرت (الوجودية)- تأخذ غالباً طابعاً إلحادياً- ودَعَت الإنسان للتفكير بحرية مطلقة ومن دون قيود، ووضعته أساس هذا الكون، ولذا، فعليه أن يحتفي بهذا الوجود، وعليه تقع مسؤولية خلق جوهرٍ ومعنى لحياته واختيار معتقداته مستقلاً عن أي شريعة أو نظام سابق. ونجد هذه المعاني في كتابات الفرنسي جان بول سارتر، الذي رفض قبول جائزة نوبل. وظهرت (العدمية) التي تقول إن وجود الإنسان عديم القيمة وخالٍ من مضمون حقيقي، وإن للإنسان إمكانات محدودة وعليه، حتى يثبت وجوده، أن يعيش في حدود هذه الإمكانات، وتتسم بالتشاؤم واليأس، ولذلك يُقال إن أبي العلاء المعري هو أشهر العدميين العرب. ثم انبثق الفكر الجديد لمفهوم (العبثية) من فكرة الوجودية- وتأثر بالعدمية- على يد الفرنسي ألبير كامو، ويدور مفهوم العبثية حول البحث غير المجدي للإنسان عن معنى للحياة، خصوصاً أنها لا تؤمن بوجود إله، فكتب (أسطورة سيزيف). وسيزيف هو أحد الشخصيات في الأساطير الإغريقية (الميثولوجيا الإغريقية) تُعاقبه الآلهة بأن يحمل صخرة من أسفل جبل، وعندما يصل إلى قمته تتدحرج عائدة إلى الوادي، فيعود لرفعها مرة أخرى، وهكذا دواليك، لا ينفك يفعل ذلك أبداً، في صورة تجسد العذاب الأبدي. لقد ظهرت العبثية نتاجا لانعدام قِيمة الحياة، ولعدم فهم سبب الوجود، فالموت والفناء كانا القيمتين المسيطرتين على الفكر الإنساني بعد الحرب، ولكن، أظن أننا نعيش اليوم عبثية جديدة سببها أمران متضادان: الأول، أننا نعيش حرباً عالمية (افتراضية) طوال اليوم من خلال معرفتنا لكل أخبار القتل والدمار والتفجير والوحشية. فيُسكب علينا قَدْرٌ هائل من العدمية وشعور بالفناء أقوى من رغبتنا بالحياة، ثم نرجع، وهذا هو السبب الثاني، إلى التعلق بالحياة بشغف وكأننا في صراع مع فكرة الفناء، فنعانق الملذات ونشبع الرغبات من خلال سيطرة الآلة (التكنولوجيا) على كل نواحي الحياة، والتسلية والبذخ والترف العام الذي لم تشهد له البشرية شبيهاً في تاريخها. ولذلك فإن العالم يعيش اليوم عبثية، ليس فقط أخلاقية وقيمية، بل إيمانية وإنسانية. لقد تماهت المفاهيم المتناقضة، وتقاربت الأضداد حتى رأينا مثقفين يصفقون للقاتل، وهو يقصف مدارس الأطفال، ويدك المنازل على الأبرياء، بحجة الدفاع عن النفس. وصارت العدمية مذهباً إنسانياً بمواصفات جديدة أبرزها، إلى جانب اللااكتراث المطلق، تبلد المشاعر، وتجمد القيم، وتكسر مرايا الضمير. لقد أصبحنا نعيش حقاً في عالم بلا معنى، منزوع القيم، قليل الرضى، تنتهي صلاحية الحياة فيه أسرع من حليب البقالة، وهذا ما يجعل الناس منافقين قلقين، إنه (الطلاق بين الإنسان وحياته، الممثل ومشهده. هو بالضبط الشعور باللاجدوى) كما يقول ألبير كامو في (أسطورة سيزيف). نحن نغتال العالم عندما ننفي الإنسان من داخلنا، عندما نقتل باسم الله، ونسرق باسم الله، ونكذب باسم الله، ونكفر باسم الله أيضاً. نصل حينها إلى حالة من العبثية المطلقة التي تجعل الأرواح في فوضى، والعقول في يأس، فيتحقق الفناء الشامل لفكرة الحياة، ولا ندرك ذلك حقاً إلى عندما تحين ساعة أحدنا. إن العبث الحقيقي أن يعيش الإنسان ويموت غير معروف بالنسبة إلى نفسه، فتصير مشاعره بلاط منزله، قاسٍ ليحتمل وطء الأقدام عليه كل يوم، وتلك هي حالة الفناء التي يعيشها إنسان القرن الحادي والعشرين، إنها عدمية المبادئ، وفناء القِيَم الكُبرى. يقول كامو في الكتاب نفسه: (المشاعر العميقة كالأعمال العظيمة، تعني دائماً أكثر مما نقوله عنها).