بقلم: مطاع صفدي في مشرقنا العربي البائس هل انتهى عصر الأحزاب السياسية، لتحلَّ مكانها عاميات الجيوش المرتزقة، لقد تهاوت منابر الآراء والمذاهب الاجتماعية لتبقى بعدها قوى القتل والطغيان، فهذه وحدَها سيكون عليها أن تبني للمجتمع مؤسساته الدستورية الجديدة، وهي عبارة عن أجهزة شبه قانونية اغتصبت مفردات القداسة، وضمّنتها أحكاماً اعتباطية جائرة. أما أحلام التغيير التي زرعتها أجيال النهضة العربية المعاصرة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد استهلكت كذلك أجيالاً أخرى من منظومات الأفكار القومية والعالمية حول النقلات الضرورية التي تحتاجها مجتمعاتها الراكدة. هذه الحركات الباحثة عن النقلات الضرورية كانت تسمى بالمذاهب الثورية. غير أن تجاربها المريرة المتلاحقة عبر خمسة عقود على الأقل، كانت في نتائجها العملية حصاداً من مواسم أشواك وخيبات جماعية؛ وإذ تتلقّف الحركات الدينية ثقافةَ التغيير الفاشلة هذه، فإنها لم تزدها إلا عقماً فكرياً وانتهازية صارخة في الممارسة. سريعاً ما انزاحت منظماتها إلى هوامش العمل العام ليجيئ في الخطوة التالية الثالثة: تنظيم داعش، ليعلن مرة واحدة بطلان مفهوم الثورة كلياً، ليُحِلّ مكانَه مفهوم المذبحة. المذابح وعصر الفتن المتلاحقة يريد تنظيم (المذبحة) أن يكون متقدماً على مختلف التنظيمات التي سبقته، لن يكرر، سواء في الشكل أو المضمون، تنظيمَ الحزب المدني أو الثوري، بل ربما سيكون أقرب إلى التنظيم العسكري والسري، ذلك أن مهمته الأولى هي إلغاء الآخر. وما يعنيه هذا الآخر هو كل من ليس منهم، أي من أولئك المعتنقين لشرعية الدم مبرًّرةً لكل شر مستطير؛ فالمذبحة تضع حداً لكل ذلك الجدل العقيم حول أصول الكفاح سلمياً كان أو عسكرياً. ليس هناك نظريات قومية أو ماركسية، وحتى إسلامية.. هناك فقط تعاليم دينية مؤولة بتفاسير (جهادية) تتناول أصول الذبح بتفاصيل عملياته، بوسائله التي يُفضّل عليها كل ما له حدُّ قاطع كالسيف والسكين والخنجر. حتى لو أمكن الاستغناء عن عدة الحرب وآلاتها الضارية. ذلك أنه لا شيء يشفي غليل الحقد المقدس كالقتل، بالخنق بكلتا اليدين أو بإِعمال السيف في عنق الضحية. وهذا هو الأسلوب الأفعل. فإن دم المذبوح المراق على جسده سيطهره من وعثاء (الكفر)، كما سيبعث في نفس قاتله شعورَ الفخار بكونه أمسى جلاداً ولم يعد مجرد ضحية لمظالم (مجتمعه الكافر!). فالمذبحة، وضداً على الثورة، ستنشئ مدنيتها الخاصة بها بناءً على تعميم شرعة الدم المسفوح على أديم الأجساد، وليس المطمور داخل عروقها فحسب؛ فالمذبحة في رأي هؤلاء هي تظهير أفعال الدم الحقيقية، هي التي تسكب لونه الفاقع على كل الوجوه، وتنشر روائحه الحارقة تحت كل الأنوف، إنها الواعدة بحضارة جنس جديد من البشر مقطوعة رؤوسهم، أو قابلة للقطع والاجتثاث كلّ آن، وتحت الطلب. لم تأت المذبحة من طريق التيه السياسوي أو العقائدي كما يُقال. وليس ثمة (مؤامرة) مهما برعت حيلتها، يمكنها أن تفرضها بكامل أجهزتها وأعتدتها كما فرضتها أخيراً مقتلات أنظمة الإستبداد المتفشية في الحاضر العربي، المأفون بأهواله المتناسلة من أفاعيها إلى ما لانهاية، كأنما لم يعد لجحيمها حدٌّ ما واقعي بل أسطوري، إنها ثمرة ذلك اليأس العمومي الجهنمي الذي ابْتُليت بكوارثه أجيال النهضة المغدورة التي عجزت عن قتل العدو؛ فانقلب بعضها قاتلاً لذاته، فوُلدت ظاهرةُ الانتحاريين الأفراد، لكنها لم تشف الغليل، فتطور الموت الفردي ليصبح موتاً جماعياً.. هؤلاء القلّة من الانتحاريين شبه الفُرادَى يصيرون تنظيماً طقوسياً ليمارس ذاتياً أولاً انتحاراً ذبحياً، يفرض تعاليم قداسته المختلفة، على مسالك محازبيه وأفكارهم. حضارة الدم والنار هكذا تنتقل المذبحة من خانة توصيفها بالجريمة المطلقة الاستثنائية في عرف الثقافة الكونية، لتصبح عقيدة جماهيرية لها دولة وسلطان، ترفع أعلام شريعتها الخاصة ما فوق ركام من مفردات وأخلاق الدين التاريخي؛ تجعل من سلطتها حاكمةً بأمرها وحدها، وضداً على كل مكسب حضاري حققته أمم الإسلام.. طيلة خمسة عشر قرناً: إنه مشروع المذبحة الذي يستبيح رقاب الناس جميعاً، يضعها تحت حد السيف، كان الناس في بلادنا أصبحوا مذنبين بالكفر أو النكران، يستحقون عقاب الذبح سلفاً. فهم مدانون قبل أن يذنبوا، ما داموا خارج قطعان القتلة والذبّاحين، وقُطّاع الرؤوس.. عصر المذبحة ليس طارئاً. وصار له نظام سياسي إقليمي، وربما عالمي قريباً، له مرحلته الثقافية والكارثية لما بعد المراحل الثورية السابقة الفاشلة. فمنذ أن أطلقت أمريكا مصطلح الإرهاب، على أول هجمة إسلاموية ضربت صرح المال العالمي في نيويورك، أصّر الغرب على تجاهل أسباب تلك المبادرة شبه المستحيلة. في الوقت الذي حدد الدلالةَ بعضُ متنوري أوربا والعرب. فقالوا عنها إنها حرب الضعفاء، وهي بداية انتقام الضعفاء من ظُلّامهم الأقوياء، بل الأشرار. فلقد رفض الغرب، وأمريكا خاصة، ليس الإقرارَ ببعض أسباب الظاهرة المرعبة الجديدة، ولكن أبى عقله الإستراتيجي الاعتراف بأية حدودٍ دُنيا لأحقية بعض تلك الأسباب. بل أمر ذلك العقل بالمعالجة ذات (الطبيعة التقنية) للنتائج وحدها، وحصرها بآثارها المحددة على مصالحه فحسب. لم يستطع الغرب تغيير شيء من مقدسات سلوكه تجاه ضعفاء العالم، وشعوب الجغرافية الإسلامية الأقرب إليه سياسياً واقتصادياً وثقافياً. لم يتفتَّق ذهنُه العبقري عن مشروع فهمٍ أولي لأية معضلةِ ظلمٍ دفيٍن دَأبَ ساستُه على ممارسته العمياء، منذ عشرات السنوات إزاء قضايا العرب الإنسانية أو الحيوية. فما زال الغرب هو المشرّع والحامي الأول لمؤسسة الاستبداد التي أجهضت نهضات العرب والإسلام منذ قرنين. ولقد رعى الغرب وأبدع في تحديث ظاهرتها وأدواتها ومفاهيمها مع كل طفرة تغيير يحققها جيل من أحرار الحضارة الجنوبية الصاعدة، فقد جعلها الغرب النقيضَ المضاد أولاً لحضارته. تدخّل دائماً في أدق شؤونها، راقبها من دواخلها، ونصب لها أدهى الأفخاخ الذاتية قبل الموضوعية.. لم يتطور الغرب قيد أُنملة عن عاداته ما قبل بداية المرحلة من (انتقام الضعفاء)، وإلى ما بعدها. بل جاء حاضرها طافحاً بِسَيكولوجيا الرد على انتقام الضعفاء. بأضعاف أضعافه المستهدفة هذه المرة، اجتثاثَ شعوب الأمة من جذورها العضوية والجغرافية، وليس تدمير هباتها وثوراتها فحسب. هذا الجانب (الأجنبي) من معضلة الإرهاب ليس وحده المسؤول عن توفير أسبابه الموضوعية، لكن (مؤسسة الاستبداد) ما كانت لتدوم وتستفحل معها وبها ظواهرُها السطحية والباطنية، ما كان لها أن تجدد آليتها ضد كل قفزة نهضوية يفوز بها مجتمع عربي أو إسلامي ما، ما كان للاستبداد أن يوفرّ للإرهاب كل دوافعه، وأن يصنع له أخطر أدواته، وأن يعلمه أحدث فنون الموت قديمها وحديثها، لو لم يكن الاستبداد قادراً أصلاً، كمؤسسة عالمية. على استثارة رواسب من بواطن الشر المحض، الدفينة في أعماق التخلف الإنساني والشرقي تحديداً، ف(المذبحة) الراهنة هي أخبث ما في هذه السلالة الشيطانية. لن تكون شاهدة فقط على ذاتها ومجتمعها كماض لسيرتها، وضحية دائمة لجبروتها. فإنها، وهي في أوج احتفالاتها بالأعناق المقطوعة، لن تنسى أحدث صُنّاعها، غرباً وشرقاً، وإن أمست تتهدَّدهم ترميزاً وتلميحاً.. واليوم أصبح الخوف من المذبحة يتعدى واقعها الإقليمي إلى الدولي، ما دام عباقرة الإستراتيجية العالمية يجهلون، يتجاهلون أن للمذبحة، ولكل مؤسستها، أسبابَها الصارخة، وأنها لم تكن هي ونتائجها المخيفة لتبلغ ذروتُها في تعميم المذبحة لو لم توجد أولاً أسبابُها، ولو لم يوجد هذا العقل الغربي الذي لا يريد أن يفهم، لكن عبثاً..