بقلم: فوزي حساينية* تٌعدُ ليالي الشِّعرِ العربي واحدةً من أبرز التظاهرات الأدبية التي تشهدها قسنطينة بمناسبة احتضانها للثقافة العربية وإن كنت أفضل تسمية (أيام الشَّعر العربي) لأن الشِّعرَ لا يرتبط بالليالي فقط بل يرتبط بالأيام ككل فنحن نقول عادة أيام العرب ولا نقول ليالي العرب كما أن عكاظيات الشعر المشهورة في التاريخ العربي كانت تنعقد نهارا وليس في الليل فضلا عن أن ليل الشاعر العربي اليوم لم يعد كليلِ الشاعر العربي القديم طويلاً عميقاً في صمته وفي إيحاءاته إذ ليس ثمة هدوء في الحياة العربية اليوم لا بالليل ولا بالنهار كما أنّ الشاعر العربي في وقتنا الراهن وإن كان قد فقد الميزات التي كان يُعطيها له ليله القديم الذي كان يتيحُ له حتى مُكْنَّةَ الاستماع إلى الهدوء قد أصبح بالمقابل يعيش تحت وطأةِ ليل عربي طويل عريض ثقيل يمتد ليشمل كل الأشياء تقريبا بما فيها النَّهار البائس الذي أصبح قصيرا مغمورا لا يكاد يُبينُ. وليس غرضي من وراء هذه الكلمات أن أعقد مقارنة بين الشاعر العربي في عهوده القديمة والشاعر العربي في زماننا هذا وإنما قصدتُ إلى إبراز أهمية هذه التظاهرة وأهمية الشعر العربي المُحتفَى به ولأنَّ الموضوع طويل متعدد الجوانب فإنني سأكتفي بتقديم الإيضاءاتِ التالية: -إن الشِّعر بتعبير الشاعر اللبناني شوقي بزيع (قبل أن يكون محاولة لتأييد الحياة ومقاومة الموت هو قبل ذلك محاولة دائمة لاستعادة ما خسرناه) ويمكننا أن نُضيف أن الشِّعر قد يكون حثّاً على الموت من أجل الحياة عندما يصبح الموت هو السبيل الوحيد إلى الحياة ! ولكن الحياة هنا تأخذ معنى أكبر وأشمل وأعمق إنها حياة الوطن حياة القضية أو مصير مبدأ من المبادئ التي ترتبط بحياة الإنسان وقيمتهِ فتصبح حياة الإنسان بعيدا عن ذلك المبدأ أسوأ من العدم كما أنَّ الموت الذي يُمهدِ للحياة ويلهمُ خيال الشعراء ويلهب قرائحهمْ يأخذ بدوره معنى القداسةِ المقدَّسةِ ويكون موتاً متجاوزا للفناء متحدياً لأفظعِ الاحتمالات التي يخشاها الإنسان وهو الزَّوال دون أن يترك أثرا يدل عليه من بعده أو بتعبير أحد أبرز الشعراء العرب المعاصرين الموتُ الذي يكون (رحيلٌ في النسيانِ). ظاهرة إنسانية - لقد قِيلَ إنَّ الشِّعر ديوان العرب ولكنَّ الشِّعر في الحقيقة ظاهرة إنسانية أيضاً ولا يخلو شعبٌ أو أمَّةٌ من الأمم عبر العصور من الشِّعر والشُّعراء على تفاوت في قيمة ومواضيع الشَّعر حسب ثقافة وظروف كل شاعر والعهد الذي عاش فيه وخلافا لما قد يتصوره البعض من أنَّ المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا قد لا تُعير كبيرَ اهتمام للشِّعر فإنَّ الشِّعر يحتل مكانة عالية لدى أكثر الأمم تقدما وإنه لذُو مغزى لمن يعوزه المغزى أن نقرأ على سبيل المثالِ في مجلة العربي الكويتية العدد 533 الصادر في أفريل سنة 2003 مايلي: (.. بدأت في إحدى محطات ( بي بي سي) التلفزيونية حملة كبيرة وصاحبها دعم من الملاحق الإنجليزية الأدبية المتخصصةِ والمجلاَّت الثقافية العامة لإحياء الشِّعر باعتباره فناً وطنياً فقد أحسَّ البريطانيون أن الشِّعر في خطر الشِّعرُ بكل ما يرمز إليه من لغة وثقافة وتاريخ وحياة يومية فجنَّدوا ناشرين ومنتجين وممثلين لإحياءِ هذا الفن..) ثم يتساءل صاحب المقال الدكتور سليمان إبراهيم العسكري: (فماذا سنفعل نحن والشِّعر ديوان العرب) ؟ ولأن الشِّعر ظاهرة إنسانية فقد استحقَّ أن يكون له يومه العالمي الذي يصادف الواحد والعشرين مارس من كل سنة وقد أهملنا نحن في الجزائر هذا اليوم على مدار السنوات الماضية وحَقَّ علينا الآن أن نُهْمِلَ هذا الإهمال ونكرسَّ الاحتفال باليوم العالمي للشِّعر انطلاقا من قسنطينة التي تستضيف شعراء اللَّغة العربية فلا يصح أن نتخلَّفَ عن باقي الإنسانية في إحاطةِ الشِّعرِ بما يليقُ به من الاهتمام في يومه العالمي وفي كل مناسبة تخصُّ شاعرا أو حدثا ساهم فيه الشِّعر والشُّعراءُ. - منذ عدَّةِ عقود بدأ الحديث في الأوساط الأدبية العربية عن تقدم الرواية وتراجُعِ الشَّعرِ لدرجةِ أن تنبأ معها البعض بأنَّ الرواية ستكون هي ديوان العرب الجديد مكان الشَّعر الذي يجب أن يبحث لنفسه عن توصيف أو مهمة جديدة ! والحقيقة أن الرِّواية العربية ورغم النجاحات الكبيرة التي حققتها والاعتراف العالمي الذي انتزعته انتزاعا مستحقا لا تحتاج إلى أن تُسَّمى ديوانا أو سجلاًّ ويكفيها أن تكون رواية عربية فضلاً عن أنَّ الشَّعر العربي إذا صحَّ أن يكون ديوان العرب في الزمن القديم فإنَّ هذه التسمية لم تعد ذات معنى لأنَّ وسائل التدوين قد شهدتْ تطورات مذهلة لم تكن تخطر على بال القدماء عندما وصفوا الشِّعر أنَّه ديوان العرب كما أنني لا أرى موجبا لافتعال نزاع بين الشعر والرواية فعالمُ الإبداع يتَّسعُ لكل الأجناس الأدبية ويُفضي بعضها إلى بعض فالراحل الطاهر وطَّار بدأ شاعرا وقاصاً وانتهى روائيا كبيراً كِبَرَ الثورة التي أنجبته ولأنه من أبناء الثورة فقد بادر -وهو الروائي المشهور- في سنة1990 والوطن تلُّفهُ غيومُ الفواجعِ وتُطَّوِقُهُ قهقهات المتربصين إلى تأسيس جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر بأبسط الإمكانيات ! وبدأت أحلام مستغانمي مسيرتها الإبداعية شاعرة لتصبح روائية ذائعة الصيتِ مستفيدة من شعريتها في إنجاز إبداعاتها الروائية الباهرة وهناك روائيون بارزون أبدعوا أيضا في عالم الشعر والمسرح وكتابة السيناريو.. فالمهم أن يكون العمل الإبداعي أصيلاً وصادقاً من الناحية الأدبية وليكن بعد ذلك شعرا أو نثرا أو جامعا لعدة أجناس أدبية ولاشك أن توفر المبدع على المقومات الأساسية الثقافية والفكرية واللغوية وعلى التجربة الأدبية شرط أساسي لأي عمل إبداعي ناجح فأبو العلاء المعري ليس شاعرا فقط بل هو فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وأبو الطيب المتنبي الذي ستحتفي به قسنطينة ليس شاعرا فقط بل هو مثقفٌ كبيرٌ وصاحب طموح وتجارب ومعاناة لا تنتهي ومفدي زكريا ليس شاعر الثورةِ وداعيةِ الوحدة المغاربية وصوت للأمة العربية فحسب بل هو مناضل عنيد في صفوف الحركة الوطنية وقلمٌ سيَّالٌ لا يعرف الفشل أو الميوعة أبدا وقل نفس الشيء عن الشاعر التونسي مْنَوَرْ صَمَّادِحْ (1939 -1998) نصيرُ الثورة الجزائرية والوحدة المغاربية فهذا التميز الإبداعي هو الذي يجعل شعراء عاشوا قبل قرون مشهورين ومعروفين لنا وكأنهم أحياءٌ بيننا وغياب هذا التميز الإبداعي هو الذي يفسرُ كيف أنَّ شعراء يعيشون بين ظهرانينا ولا أحد يحفظ أو يردد أشعارهم وقد تكون ثَّمةَ عوامل أخرى تتدخل في صنع المجد والشهرة أو الخمول وقلَّةِ التأثير ولكن يبقى العمل الإبداعي في ذاته هو الفيصل في مسألة الذيوع أو الخمول. إبداع خاص - الشعر تكثيف للمعنى وتوظيف فني إبداعي للغة وتفاعل مع الأحداث والطبيعة والنَّاس والأفكار ويختلف إنتاج الشعراء حسب ثقافة واهتماماتِ كل شاعر لكن يبقى العامل الحاسم- من الوجهة الوطنية والقومية- هو اللغة التي يكتب بها الشاعر وينظم فيها قصائده لذلك تحتفي كل أمة بشعرائها الذين غنُّوا وسجَّلوا أمجادها والأمم تتشابه في ذلك لكن ما يميزُ اللَّغة العربيةَ هو أنَّها لغةٌ خالدة ومن مظاهر أو مزايا هذا الخلود أننا نستطيع ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين أن نقرأ ونستمتع بقصائد نظَّمها الشُّعراءُ قبل خمسة عشرة قرنا أو يزيد وكأنَّها كُتِبتْ قبل حين وهي استمرارية مذهلة ولا مثيل لها أبدا في أي لغة أخرى وما أجمل أن يتصفَّح المرءُ كتاب (صوت أبي العلاء) لعميد الأدب العربي طه حسين الذي قام فيه وبأسلوبه المتميز بشرحِ العديد من الروائع الشعرية لأبي العلاء المعري التي تناول فيها نماذج رائعة في النقد السياسي والاجتماعي والديني تنطبق في أكثرها على حياتنا المعاصرة وكأنها نُظِّمتْ خصيصا لوقتنا أو بوحي من واقعنا وميزة الاستمرارية هذه لا تتوفر للأوروبيين الذين فقدوا منذ القرن الخامس عشر الميلادي الوحدة اللغوية التي كانت تجسِّدها اللُّغة اللاتينية فتوزعت ألسنتهم إلى مئات من اللغات القومية الخاصة والفرنسي اليوم وحتى في إطار اللُّغة الفرنسية التي بدأ صعود نجمها مع فرنسوا الأول(1494-1547) لن يكون قادرا على قراءة نصوص فرنسية إلى أبعد من ثلاثة قرون على أقصى تقدير والأمر نفسه ينطبق على سائر أمم وشعوب أوروبا فالشعر ليس مجرد قول وغناء إنه رمز حقيقي لهُوية الأمةِ وتصويرٌ إبداعي خالدٌ لأمجادها وانتكاساتها وبالتالي تجسيم وترسيخ لوجودها واستمراريتها في الزمن ولذلك نفهم كيف أن أمَّة عظيمةً مثل الأمَّة الروسية تجعل من يوم السادس جوان من كل سنة يوماً وطنيا للغة الروسية لأنه اليوم الذي ولد فيه شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين سنة 1799 ففي هذا اليوم تشهد روسيا كلها بل وجميع الناطقين باللغة الروسية في مختلف أنحاء العالم احتفالات وتظاهرات ثقافية وفنية إحياء لذكرى بوشكين واحتفاء باللغة الروسية التي كتب بها أشعاره الخالدة ولا بأس أن نفيد القارئ هنا بحادثة لها علاقة بالسياق فعندما اندلعت الثورة البُلشفية سنة 1917 طالب بعض الثوار باستبعاد اللغة الروسية واعتماد بعض اللهجات الشعبية بحجة أن اللغة الروسية لغة القياصرة ولغة الطغيان ! فرفض لينين مطلبهم ووصفهم بالصبيانيين والمراهقين السياسيين وقال: (لن نتخلَّى أبدا عن لغتنا الروسية الجميلة ولن نستبدلها بأي لهجة أو لغة أخرى). ولكن الشِّعر العربي لا يعد عامل توحيد للزَّمنِ العربي فقط بل هو عامل توحيد وبنفس الرَّوعةِ والأهمية للجغرافيا العربية الواسعة فما يقرأهُ ويفهمه ويتأثر به الشاعر العربي في عُمَانْ يفهمه ويتفاعل معه الشاعر العربي في موريطانيا على بعد المسافات وامتداداتِ الآفاق في حين لا يستطيع الشاعر الإسباني أن يفهم عن الشاعر الألماني أو الفرنسي دون ترجمة وشرح ومعاناة ! فكيف لا نحتفي بالشِّعر العربي وهو يحقق لنَّا كل هذا الامتداد والعمق في الزمن وفي الجغرافيا ؟. الجزء الأول من مساهمة على هامش عاصمة الثقافة العربية * إطار بمدرية الثقافة لولاية قالمة