بقلم: غادة السمان* عبارة (المغرد) أو (التويتر) في الإنترنت أفضل عليها عبارة أكثر وصفا لواقع الحال أي (التبويم) فالتغريد صوت الحبور والتبويم يضم إيقاعات القلب كلها. واليوم سأقوم (بالتبويم) وأعتدي على البوم اللطيف طائر الليل المتشائم من البشر الهارب من شرورهم حتى إلى المقابر. لماذا فعلتِ ذلك بنا؟ لحظات أليمة لن أغفر يوماً ل(إذاعة الشرق من باريس) أنها أوجعتنا بها أنا وسواي من أيتام العروبة والوحدة والحرية. حديث ذلك ذات يوم أحد حوالي الساعة السادسة مساء حين كنت في انتظار الاستماع إلى نشرة الأخبار وداهمتني أغنية لم أسمعها منذ ألف عام لعبد الحليم حافظ جعلتني أقف على حافة الدموع. لا. لم تكن أغنية عبد الحليم هذه عن الحب والفراق والأشواق بل كانت عن الوطن.. وعن زمن غابر قبل الانهيار العربي الكبير وأوطان الشتات واسم الأغنية: (وطني حبيبي يا وطني الأكبر).. والمقصود الوطن العربي (المتحد) وكان ذلك يبدو في الزمان الماضي ممكن التحقق وكانت استعادة أرض فلسطين المسروقة خطوة هينة. هذا قبل هزيمتنا المروعة سنة 1967 واختراعنا لها اسم (نكسة). وهي هزيمة جعلتني أهيم في شوارع لندن حين اشتريت مجلة (الايكونوميست) وجاء في غلافها الأول عنوان كبير يقول ما ترجمته بالعربية: لقد فعلوها!! وحرفيا بالإنكليزية (They did it) ولم أنس العنوان حتى بعد مرور تلك الأعوام كلها فقد أذلني: أي أن الإسرائيليين استطاعوا هزيمة البلاد العربية كلها مجتمعة التي حاولت تحرير فلسطين الأرض الموعودة لليهود بشهادة بلفور ووعده (الذي تصادف ذكراه هذه الأيام) فلسطين التي أعلنها نتنياهو وطناً قومياً ليهود كوكبنا.. ولعل الكثير اليوم يجهل من هو بلفور ووعده لانشغالنا بالصراخ: الموت للطائفة الأخرى ونسوا إسرائيل. طعنة في الذاكرة عن سابق تصميم؟ هل أذيعت أغنية (وطني حبيبي يا وطني الأكبر) بصوت عبد الحليم حافظ لأنه تصادف وجودها على شريط مسجل ما؟ أم أن ثمة من تعمد ذلك لتعرية جراحنا العربية بلا محسنات لفظية بيانية شعرية كمن يضع مرآة لنرى وجوهنا الحقيقية عارية في زمن الشرذمة والاقتتال الذاتي والذل العربي المتفاقم يوماً بعد آخر قياساً إلى نبض العزة والكرامة الذي عبر عنه صوت عبد الحليم في الكلمات العادية للأغنية لكنها كرسالة حب قديمة تعيدنا إلى كل ما مضى وكيف كنا وأين صرنا نرجوك أيتها الإذاعات العربية كلها عدم إذاعة أغاني الوحدة بين مصر وسوريا وأحلام (الوحدة العربية) مثل أغنية (وحدة ما يغلبها غلاب) وبقية الأغاني عن عناق (الموسكي) و(سوق الحميدية) أما (المتحدة) فهو الإسم الذي أطلق يومئذ على القطر الشمالي (سوريا) والجنوبي (مصر) بعد وحدتهما وحذار من أغنية (أمجاد يا عرب أمجاد) وسواها من الأغاني التي تعيدنا إلى مشاعر زمن فاحت فيه روح الإباء والشهامة والحس بالكرامة العربية والثقة بأن تحرير فلسطين ليس أكثر من خطوة صغيرة في درب تحرير الوطن العربي كله وتوحيده.. أما اليوم فلم تعد فلسطين قضية العرب (المحورية) بعدما تكاثرت المحاور كخيوط شباك عنكبوتية بعضها من صنع غير محلي ولكننا نتخبط فيها. أعرف أن كلمات أغنية (وطني حبيبي وطني الأكبر) تكاد تكون (ساذجة). لكن معظم رسائل الحب للوطن أو الحبيبة تتضمن تلك البراءة العفوية التي قد يدعوها البعض بحق ساذجة إذ ما هو (الإبداعي) بكلمات مثل القول عن (وطني الأكبر): يوم ورا يوم أمجاده بتكبر/وانتصاراته الغالية حياته/وطني بيكبر (وهنا يقوم قلبك بالتبويم دامعاً) لأنك تخشى اليوم من إمكانية تقسيم قلب العروبة النابض سوريا وتقسيم العراق وليبيا واليمن.. و.. و..). كم أنت سعيد الحظ يا غسان كنفاني الذي مضى قبل أن يرى (البيغ بانغ) في عالمنا العربي اليوم بما في ذلك محاولات اغتيال لبنان. ولم تعايش الاعتداء على المسجد الأقصى والتدمير المنهجي لبيوت الفلسطينيين وأرواحهم وأرزاقهم وكراماتهم وتراثهم.. وانشغال العرب عن ذلك كله. تبويم الشعراء: الجواهري في أواخر السبعينيات من القرن المنصرم كان ثمة ما يشبه الوحدة بين سورياوالعراق وكلاهما بعثي (قبل انشقاقهما). وفي حوار بين الكبير محمد مهدي الجواهري والشاعر الصحافي حافظ محفوظ (رئيس تحرير مجلة (الحصاد) اللندنية) قال الجواهري: إذا فشلت الوحدة بين سورياوالعراق فلن تقوم لها قائمة بعد اليوم. وللأسف هذا ما حدث! الأدباء ليسوا من أهل السياسة وربما لذلك يتعاملون مع (جوهر) ما يدور ويلعبون أحياناً دور العرافة التاريخية التي لا تخطئ.. وبعضها تحذيري متشائم ويتمنون بصدق أن يعلنوا تبويماً مبهجاً يقول: قرر العرب الاتحاد في وجه الإذلال الصهيوني والالتفات إلى قضية فلسطين المحورية العربية كخطوة أولى في درب الوحدة بين شعوب تنطق كلها باللغة العربية وتجمعها أمور كثيرة. ولعل الجيل العربي الآتي يعلن أنه لا يعقل أن تتحقق الوحدة الأوروبية منذ أعوام بين بلدان كانت تتحارب ولكل منها تاريخه المختلف وعراقته وتتفكك أحلام الوحدة العربية التي تجمعها لغة واحدة وتاريخ مشتركة وهواجس أخرى كثيرة. من المحزن في ذكرى وعد بلفور أنني أحلم على الأقل (بالوحدة) بين شارع (كورنيش المزرعة) في بيروت و(الضاحية الجنوبية)! فقد علمني الزمن التقشف في الأحلام كما كتبت لكم منذ ألف عام من الأحزان!.. ولكنني سأتابع التبويم!