التعزي بإعادة تذكر أشخاص عرفناهم وتأثرنا بهم، أو بأمكنة قضينا فيها أوقاتاً جميلة، وقد ترك هذا أو تركت تلك أثراً في الوعي بالماضي، يمنح فعل استرجاعه على النفس التشبث به أو العودة إليه، دون التمكين من النظر في نقد سلبيات هذه المؤثرات أو ما اعترى تلك الأمكنة من تشوهات تركت أثراً في النفس. ولكن العودة إلى زمن طه حسين وجمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ وغيرهم، هؤلاء الذين تركوا أثراً لن ولم يمح في الثقافة الاجتماعية والسياسية والذوق الفني لدى أجيال القرن العشرين. هؤلاء الذين تستمر مؤثراتهم في أجيال تتطلع إلى المستقبل، وإن كانت ذاكرتها تسترشد بما فعلته وقدمته أجيال الماضي، هذا الأثر الذي تكاد بصماته تكون حاضرة في حياتنا حضورهم ذاته، خاصة ونحن نسترجع حضوراً جميلاً، بديلاً عن زمن نعيشه اختلت فيه كل المقاييس وتحولت بمعظمها إلى سلبيات تزداد قبحاً حين المقارنة بما نعيشه. إنه الزمن الجميل الذي مضى، والذي لا يخلو من معنى إلا إدانته للحاضر.. فجابر عصفور في سيرته الذاتية "زمن جميل مضى" يعترف "أننا لم نواجه ما نعيشه من واقع بالقدر الذي يهم في جذرية تغييره".. وقد نجد فيما نقرأه عند عصفور أن هناك نوعان من العودة إلى الماضي، نوع سلبي لا يرى فيما نعيشه أي وجه إيجابي، بينما الآخر يعتبر الماضي الأصل الذهبي الذي ينبغي أن يقاس كل جديد عليه.. في المحطة الأولى من محطاته الخمس، تناول عصفور المؤثرات العائلية، كذلك مؤثرات مدينة المحلة الكبرى التي ولد فيها، واطلاعه على محتويات مكتبة البلدية فيها، وعلى "العم كامل" بائع الكتب الذي تأثّر به وبأمانته وباختياراته للكتب التي يأتي بها إلى زبائنه ومن ثم اطلاعه على محتويات مكتبة الأقباط وبعد ذلك مكتبة مدرسة التوفيقية، حيث تعرّف فيهما على الأستاذ الأول ليس فقط في المدرسة، ولكن أيضاً على أباء القصة والرواية والشعر من المصريين وغيرهم من العرب. أما عن بدايات نمو المؤثرات السياسية عند الراوي، فيذكر بأنها ترافقت مع الأحداث التي عرفتها مصر عام 1956، والتي شارك فيها جل الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، يقول: "ولا أزال أذكر أن أحد رجال الأقباط الكبار من جيراننا رقص عندما استمع إلى عبد الناصر يعلن تأميم القناة، وأن مدرسينا الأقباط كانوا يحدثّوننا -كأقرانهم من المسلمين- عن معنى استكمال استقلال الوطن الذي يعيد لنا ما هو حق، حيث تأثر عبد الناصر بمصدق، محمد بن هدايت (1881 - 1967) الذي أصبح في الذاكرة المصرية بطلاً مقاوماً للاستعمار ومدافعاً عن استقلال وطنه واسترجاع ثروته القومية من مغتصبيها. ومصدق هو السياسي الإيراني الذي تولى رئاسة الوزراء في عهد والد الشاه محمد رضا البلوي، وهو صاحب قرار إلغاء معاهدة النفط الإيرانية البريطانية سنة 1951. وهو الأمر الذي أغضب الدول الاستعمارية المحتكرة البترول، فأجبرت شاه إيران على عزله سنة 1953 وسجنه لثلاث سنوات. وقد تحول بسجنه إلى أحد أبطال ثورات تحرر الوطن التي سطع فيها نجم عبد الناصر الذي أصبح زعيم الأمة العربية، بل زعيم العالم الثالث في الوقت نفسه ومن المفارقات العجيبة أن مصدق توفي في العام الذي حدثت فيه هزيمة 1967. ** في محطته الثانية من مسيرته التي نشر خلالها في مجلة العربي الكويتية"، يتحدث جابر عصفور عن "فتنة القاهرة" وتعرفه عليها عام 1960، حيث يعترف بأنه قبل ذلك التاريخ "لم ير من وطنه سوى حدود المحافظة التي تعلم فيها، لم ير مسرحاً ولم يعرف التنوع الجغرافي والثقافي والبشري لوطنه. وهو أمر يلازم ضيق الأفق، وضآلة الثقافة والقابلية لتلقي بذور التعصب والتطرف، خصوصاً في محافظات الجنوب التي ظلت بعيدة عن الاهتمام الحكومي طويلاً"، يضيف "كنت أود أن أذهب إلى السد العالي، الذي رفض البنك الدولي تمويله، والذي أدى إلى إسراع عبد الناصر في تأميم القناة، وبالتالي مواجهة العدوان الثلاثي الذي خرجت منه مصر زعيمة للوطن العربي، وعبد الناصر بطلاً قومياً"، لينتقل عصفور إلى الحديث عن المحلة الكبرى وكيفية تعرفه على القاهرة، حيث لم أجد وسيلة سهلة في سرعة معرفة أسماء شوارع وسط المدينة إلا أسماء المكتبات الواقعة في هذه الشوارع"، ويضيف "أن سرعة السير كانت تتزايد ونحن نرى الشوارع النظيفة ونضارة الوجوه التي تسير فيها، فضلاً عن بهجة الأزياء التي كانت سائدة، وكانت واجهات العمارات القديمة لوحات تشكيلية تجذب العين الباحثة عن الجمال، وتغري بالوقوف أمامها، والاستغراق في تفاصيلها وتذوق ما فيها من جمال النظام أو نظام الجمال"، لقد دارت الأرض دورتها بعد ذلك الزمن، وتقلب المشهد وفقدت الدائرة الجغرافية، أهميتها بعد ما تشكلت طبقات جديدة، فانتقل مركز الثقل من قلب المدينة إلى ضواحيها البعيدة خصوصاً مدينة نصر التي استقر فيها أغلبية العائدين من أقطار النفط، فأصبحت المدينة رمزاً لزمن جديد، وفضاء لحركة رأس مال مغاير في أهدافه ومطامحه وأساليبه، وضاقت شوارع المدينة القديمة بالسيارات التي خنقتها، وحل محل الهدوء، الضجيج وتلوث البيئة، وأصبح المارة أكثر اندفاعاً إلى العنف الذي يبدو استجابة طبيعية لكل ما حولهم، وهجر العشاق أماكنهم المعتادة في قلب المدينة، إلى الأطراف التي لا زالت تتميز ببعض الهدوء، وتركوا الشوارع المختنقة المكتظة لشباب من نوع مختلف، تتناقض ملامحهم وملابسهم التي تجمع ما بين جهامة الوجه الملتحي وملامح أصحاب الألقاب الجديدة من "الحزينة" وغيرهم. ويعود عصفور بالتاريخ إلى الوراء حينما يعود بذكرياته إلى ما قدمه الخديوي إسماعيل (1830 - 1895) الذي حاول أن يجعل من مدينة القاهرة قطعة من أوروبا، "فيتحدث عن السياسة العمرانية لهذا الحاكم المتنور الذي بنى دار الأوبرا على طراز أوبرا سيكالا الإيطالية، ومسرح الأزبكية، ودار الكتب، كذلك كان قد دشن العديد من الشوارع القديمة، والجسور التي جمعت بين ضفتي النيل، وإضاءة مدينة القاهرة، وتوصيل مياه الشرب النظيفة إلى المنازل، وإلى إنشاء شبكات الصرف الصحي والمدارس الحديثة، والمتاحف، كذلك المعهد العلمي أو الحديقة الجميلة. ويضيف عصفور أن "الخديوي إسماعيل كان قد انبهر بما شاهده في فرنسا التي زارها في 1876، لذا فقد استدعى المهندس العالمي هاوسمان الذي طلب منه المجيء إلى القاهرة. هذا المهندس الفنان الذي ذاع صيته في أنحاء أوروبا في ذلك الزمن. ولقد طلب الخديوي منه وضع مخطط جديد لمدينة القاهرة. كما قابل المهندس بيير جران الذي أصبح من كبار مهندسي القاهرة فيما بعد، والمهندس باربللي ديثان الذي اتفق معه على وضع تخطيط جديد لحديقة الأزبكية". لقد كلّف إسماعيل علي مبارك ليشرف على وزارتي الأشغال والمعارف وعلى تنفيذ هذه المشاريع، "حيث كان حلمه إنشاء قاهرة تضارع باريس في تنظيمها وجمال مبانيها. هذا ولم يكتف إسماعيل بذلك، بل أنشأ مدرسة الري والعمارة في العباسية، ومدرسة الحرف والصناعات في بولاق لتدريب العمالة الفنية". ** المحطة الثالثة في سيرة جابر عصفور، تناول فيها "ذكريات تلمذة" تناول فيها دخوله إلى كلية فاطمة، وتعرفه على الأساتذة الذين تأثر ببعضهم، خاصة أستاذ أجيال القرن العشرين طه حسين الذي يقول عنه: "عرفت طه حسين منذ تفتح وعيي على القراءة، وكان لكتاب "الأيام" تأثير السحر في وجداني منذ مطلع الصبا، فقد شدني هذا الكتاب إلى طه حسين، فقررت أن أكون مثله، وأخذت ألتهم كتبه واحداً بعد الآخر، جامعاً بين تراثه الإبداعي ودراساته الفكرية والأدبية. وكان طه حسين ملء السمع والبصر، وهو الذي ساهم في تحقيق حلم مجانية التعليم الذي أوصل أمثالي من الفقراء إلى المدارس الحكومية. "ولكن هل طه حسين حقق هذا الحلم، أم ثورة يوليو وجمال عبد الناصر؟"، يضيف عصفور "لقد ظل طه حسين محارباً صلباً لا يكف عن دفاعه الحماسي عن العقلانية والعلم والاستنارة وأفكار التقدم بوجه عام في مواجهة رموز التخلف (...) وبذلك اخترت القسم الأدبي في المرحلة الثانوية، فقد كان طه حسين طريقي إلى كلية الآداب"، يضيف "لقد بدأت أتابع مواقفه الداعمة للتجديد الأدبي، ومناظراته مع الكتاب الشبان في ذلك الوقت، منهم محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي". وما لبثت أن تعرفت على سهير القلماوي، تلميذة طه حسين ورئيسة القسم في كلية الآداب التي درست ودرَّست فيها. وكان حلمي بعد دخولي إلى الكلية أن أحظى بلقاء طه حسين، حيث علمت أنه لم يعد يقوم بالتدريس في القسم إلا لطلاب الدراسات العليا، إلا أن هذا الحلم قد تحقق بعد تعييني معيداً في قسم اللغة العربية، حيث ذهبت بصحبة سهير القلماوي إلى منزله في الهرم فيلا "رامتان"، ولا زلت أذكر أن قصر يوسف بك وهبة كان على مقربة من فيلا طه حسين". لقد انطبع في ذاكرتي اسم رامتان، فبحثت في لسان العرب، فعرفت أنه اسم موضع في البادية، وأن مفرده رامة، يضيف "لقد دخلت بصحبة أستاذتي سهير القلماوي إلى محراب طه حسين وأنا أكاد أرتجف من الرهبة، وكان العميد يجلس على كرسي -فوتيه-، وابتسم وجهه عندما سمع صوت تلميذته التي انحنت وقبلت وجنتيه" وأفسحت من ثم مكاناً لي، بعد أن قالت له معي حفيد لك من تلامذتي يريد أن يلقاك فهو مفتون بكتاباتك التي يحفظ بعضها عن ظهر قلب، فابتسم العميد ومدّ يده صوبي فسلّمت عليه، وبادرني بالسؤال عن من أحب من الشعراء، فقلت له من فوري، أبا العلاء، بعد ذلك مال طه حسين لسهير القلماوي، تلميذك هذا قد يكون له إنجاز في النقد الأدبي. وبعد خروجي من منزله لم أتوقف عن متابعة أخبار طه حسين الذي جعلتني سهير القلماوي حفيداً له. هذا وقد شاركت في ندوة عنه نظمتها الجمعية الأدبية عن كتاباته، وكانت المناقشات التي تدور في هذه الجمعية تذاع من إذاعة "مع الشعب" التي كان يشرف عليها فاروق خورشيد الذي كان من أقربهم إلي، وقد ناقشني من المشاركين في هذه الندوة، حسين نصار، وشكري عياد وعبد القادر القط وفاروق خورشيد وعبد الغفار المكاوي وعز الدين إسماعيل وعوني عبد الرؤوف وعبد الرحمن فهمي وغيرهم من أعضاء الجمعية. وقد اتفقنا على أن نتبرع بالمكافآت التي قدمتها لنا الإذاعة إلى طه حسين الذي أخبرنا فاروق خورشيد بأنه كان في ضائقة مالية".. *** في محطته الرابعة "سكندريات" يتحدث عصفور عن مدينة الإسكندرية الذي يقول إنه ينتمي إليها عن طريق والده المولود فيها. تلك المدينة التي يعتبرها مرابع الصبا التي تعود الحياة فيها زمناً، والإقامة طوال أشهر الصيف. إن ما شغله عنها دخوله إلى جامعة القاهرة، ولكن يضيف "ولكنني ظللت على حبي لمدينة أبي ولا تفارقني ذكريات مغامراتي فيها، حيث أعدت صلتي بها عندما أستقر بي المطاف في القاهرة". ولكن عصفور ابتعد لاحقاً عن الإسكندرية، لينتقل إلى الساحل الشمالي، "حيث القرى التي أصبحت الإقامة فيها علامة على الوجاهة الاجتماعية"، ويستدرك عصفور ما يقوله "معتبراً أن الاسكندرية قد تعلم فيها معنى الانفتاح الفعلي على العالم بمخالطة أجانبها المختلفين الذين عاشوا في وئام". تلك المدينة التي لم نعرف فيها التمييز بين الأجناس، بل عرفنا السماحة الاجتماعية والدينية التي لم تعرف ألوان التعصب التي ابتلينا بها مع عواصف التطرف والإرهاب التي لم تكن من جنس الاسكندرية في تاريخها الذي أعرفه". ويرى عصفور بأن للاسكندرية قدرة سحرية على أن تحول الأجانب القادمين إليها إلى مواطنين فيها، وصهرهم داخل بوتقتها البشرية التي جعلت من سكانها سبيكة إنسانية تتميز بوحدة التنوع البشري الخلاق، الوحدة التي تفاعل فيها الأرمن واليونانيون والإيطاليون وغيرهم من المصريين في فضاء الإسكندرية المفتوح". "إن الإسكندرية كان لها دور طلائعي في الحركة النسائية، ودور رائد في الصحافة وفي تأسيس الأفكار المحدثة، فأهم المجلات النسائية الأولى صدرت فيها، وجريدة الأهرام بدأت منها، وكان يعمل بها جرجي زيدان الذي انتقل إلى القاهرة وأنشأ مجلة الهلال" وجاء إليها من طرابلس فرح أنطون الذي أنشأ مجلة "الجامعة" المجلة التي نقلت إلى القراء أفكاره الجذرية عن الدولة الحديثة وأهمية التسامح والعلاقة بين الطوائف والأديان. ولم تكن الإسكندرية أقل من القاهرة في التمرد على الاستبداد، خصوصاً بعد أن برز فيها أمثال أديب اسحاق أو عبد الله النديم الذي جعل للاسكندرية حضوراً متمرداً على الاستعمار".. إن للاسكندرية موقعها المكاني في وجدان المصريين، ففيها تعلمنا معنى الوطنية، ومن ميدانها وتحديداً من مبنى البورصة "كان عبد الناصر يخطب في الجماهير التي لم تحب زعيماً مثلما أحبته. وكانت تتطلع إلى هذه الشرفة في يوليو من كل عام تنتظر خطاب الزعيم، هذا المبنى الذي هدم في زمن السادات، وتحولت الأرض إلى مكان لانتظار السيارات". يضيف عصفور "انتهى ذلك الزمن، ودخلنا في زمن آخر منذ أن هدم السادات ذلك المبنى الذي تعودنا أن نرى عبد الناصر على شرفته، ولعلهم فعلوا ذلك حتى لا نقول لأبنائنا أو أحفادنا: هنا وقف عبد الناصر وأعلن للعالم كله تأميم قناة السويس، وبدأ موجة التأميم العربية في الدنيا العربية، مستهلاً عهداً جديداً من الأحلام القومية الصاعدة. لقد أصبح ذلك المكان رمزاً غائباً للأجيال التي تأتي في زمن العولمة". ** في محطته الخامسة والأخيرة "ذكريات ناصرية"، يتذكر عصفور أولى مؤثرات ثورة يوليو 1952، في حياته، وتعلقه بحبيب الملايين جمال عبد الناصر، وفي الكيفية التي انعكست فيها خسارة معركة 1967 على حياته. فحرب 67 مثلت في حياة مصر خسارة معركة، ولم تكن خسارة حرب كما يشير الراوي وغيره ممن يعتبرونها نكسة، فيتذكر زمن عبد الحليم حافظ الذي ارتبط اسمه بالثورة التي غنّى لها ولجمال عبد الناصر حبيب الملايين. جابر الذي يتغنى بشعارات عبد الناصر "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد" يعتبر بأن تلك الشعارات أثارت فينا الإحساس بالأمل، وجابر مثله مثل أبناء البورجوازية الصغيرة أو المتوسطة رأوا في الثورة تجسيداً لحضورهم، ولم يشعروا بالغربة التي كانت تجسدها الوضعيات السياسية مرحلة ما قبل الثورة". ويضيف "إن أبناء جيله لا زالوا يتذكرون أغنية "الاتحاد والنظام والعمل" تلك التي جسدتها السينما المصرية والتي حملت في مضامينها ثورة ضد الفساد والإشادة بالأبطال الذين قاتلوا في حرب فلسطين، وقتلوا نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة التي تاجر بها الملك الفاسد".ثم يستعرض بعض الأفلام التي شاهدها في ذلك الزمن، من فيلم "الله معنا" الذي مثل فيه إلى جانب عبد الحليم، عماد حمدي وفاتن حمامة، اللذين كانا رمزاً لكل الذين تمرّدوا على الواقع السياسي والاجتماعي الذي تم التعبير عنه في فيلم "الله معنا". ويعتبر عصفور أن هذا الفيلم من الأفلام التي تركت في جيله أثراً، كان ذلك قبل مشاهدة فيلم "رد قلبي" ليوسف السباعي الذي انتسب إلى الضباط الأحرار وزامل حسين الشافعي، الذي كان رجل الثورة لدى المثقفين، ورجل المثقفين لدى الضباط الأحرار. لذلك أوكل إليه عبد الناصر الإشراف على العمل الثقافي، ليس فقط على المجلات التي صدرت بل أيضاً على التجمعات التي قادها أو المؤسسات الثقافية التي أنشأها وعلى رأسها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الذي بدأ عمله 1956. المؤكد يقول جابر أنني رأيت عبد الناصر، قبل حرب 1956، كان ذلك حينما أتى وصحبه إلى المحلة الكبرى، من ضمن جولة في مدن الدلتا المصرية، وكنت حينما رأيته في حوالى العاشرة من عمري، ولا أستوعب سوى أن هناك ثورة كبرى". لقد اندفعت جماهير الفقراء لملاقاته في المحلة الكبرى من العمال والفلاحين جنب صغار الموظفين والطلاب في حشود بدت لا نهاية لها من المواطنين الذين ضاقت بهم الطرقات، ولم نجد لنا نحن الصغار - يقول عصفور- سوى أن نتسلق مثل القردة جذوع الأشجار لنلقي نظرة عليه. وكيف يمكن للمرء أن ينسى المرة الأولى التي هتف فيها من قلبه، تحيا مصر، تحيا مصر، يحيا عبد الناصر حبيب الملايين. ولا زلت أذكر هجومه على الرجعية العربية وعلى من كان يراه معوّقاً لمسيرة الصعود القومي. لقد ظل عبد الناصر الأقرب إلى العمال والفلاحين فكان يخاطبهم باللغة التي يفهمونها، ويسعى لأن يحتلوا المكانة التي يستحقونها"..لقد كان عبد الناصر في سلوكه وأفعاله ومواقفه عند حسن ظن هذه الجماهير، فقد عاش بسيطاً، لا يملك شيئاً، زاهداً في متاع الدنيا، لم يجد حتى أعدى أعداؤه مطعناً في نزاهته أو بساطة حياته أو إخلاصه الكامل لكل ما عمل لتحقيقه. فقد قضى حياته كلها، لا يدخر وسعاً في العمل على تنفيذ مطالب الملايين التي أحاطت به من المحيط إلى الخليج". كانت الملايين التي تحبه تشبهه كما كان يشبهها، خصوصاً في الانطواء على حلم المستقبل. لذلك كان وعيه ممتلئاً بهذه الملايين التي كانت ضميره كما كان هو ضميرها، وكانت فقيرة مثلما كان هو فقيراً، وكانت صادقة مثلما كان صادقاً، ولن ينسى أبناء هذا الجيل تأمين قناة السويس، كذلك تحقيقه لحلم الوحدة بين مصر وسوريا. لقد كانت الحماسة الهادرة هي في استقبال الجماهير له في اليمن والمغرب ومالي والجزائر والسودان وتونس والعراق وغيرها. كأن كل هذه الأقطار صارت قطراً عربياً واحداً.. لقد ارتبط اسم ناصر بحركات التحرر الوطني في كل مكان على امتداد الكرة الأرضية، وأصبحت صور عبد الناصر في كل مكان. لقد ارتبط اسم ناصر بحركات التحرر الوطني الذي عرفته واستلهمت أفكاره. ولا تزال ذاكرة جيلي تحتفظ بصور عبد الناصر مع صديقه نهرو وصديقه تيتو كذلك مع أصدقاء سوكارنو وانديرا غاندي والسيدة باندرانيكه وسيكوتوري ونيريري وجومو كينياتا وكاسترو والأسقف مكاريوس وغيرهم ممن عملوا معه على تأسيس منظمة عدم الانحياز.لقد وضع عبد الناصر "الأمة العربية موضع الصدارة في اهتمام العالم واحترامه، الكرامة، القومية التي وحّدت أحلام الملايين الذين أحاطوا بالقائد في كل مكان، فكانوا له الدرع والسند ومصدر الإلهام وجذوة الحلم المتجددة، كما كان لها وعد الخلاص من الاستعمار القديم الذي حمل عصاه ورحل. ففي عهده لم تتغير الخارطة المصرية فقط، بل تغيرت الخارطة العالمية، حيث أصبحت شعوب العالم الثالث قوة لا يستهان بها، هذا هو زمن عبد الناصر.. هذا هو زمن الكرامة العربية". *** عبد الحليم حافظ عبد الحليم الذي عبَّر واقترب من وجداننا فكان عالمه عالمنا وجدنا في ذلك الأفق ما نصبو إليه ونحلم به.. فكان عبد الحليم حافظ "نموذجاً، خصوصاً إذا قارنا بينه وبين محمد عبد الوهاب أو فريد الأطرش، وكلاهما كان الأقرب إلى الأجيال السابقة علينا. عبد الحليم، كان وحده صورتنا كأننا نتطلع في مرآة، شاب نحيف، مرهف المشاعر، مرهف الأحاسيس، معتز بفنه اعتزازه بكرامته، يتمتع بضحكة صافية تعكس صفاء روحه. ينتسب إلى الشرائح الفقيرة من الطبقة الوسطى، ويسعى إلى أن يؤسس لنفسه مكانة يفرض بها حضوره الإبداعي، على مجتمع لا يأبه به في البداية، ولكنه سرعان ما يلتفت إلى موهبته نتيجة الإصرار والصبر والإيمان بالإبداع الجديد الذي يستنزل المستحيل". لقد كنا كجيل -يضيف جابر عصفور- نعشق الخيال لا صور الواقع، ونحب المثال الذي صاغه لنا الوهم، وعندما نتابع حبيبات عبد الحليم، من فاتن حمامة إلى ليلى عبد العزيز أو صباح أو مريم فخر الدين أو ماجدة أو مرفت أمين أو ناديا لطفي، لم يكن قط، الفتيات اللاتي كنا من لحم ودم واللاتي سرعان ما كنا يتحدثن عن مشكلات الواقع التي تحطم على الأرضي كل أحلامنا، فتذبل براعم حبنا تحت شمس الواقع الذي بدأ مترصداً بتوقنا إلى الزمن الجميل والحبيبة التي لا تنتسب إلى هذا العالم الفاسد. ولم يكن فساد العالم الذي كرهناه، لأنه نقيض براءتنا يفعل شيئاً سوى أن يعيدنا إلى عبد الحليم ابتداءً من لحظات الحب المنكسرة، وانتهاءً بقسوة القدر الذي يسلب المحبين أيامهم الحلوة التي كانت "أيامنا الحلوة". «لقد تقمصنا عبد الحليم في تجاربه الناجحة والفاشلة، فاحتضنا الوسادة الخالية" في نومنا وفي "أيامنا الحلوة" التي رأيت فيها عبد الحليم مع صديقه أحمد رمزي وعمر الشريف، وأحسبني لم أضحك كما ضحكت من خفة دم زينات صدقي، ورهافة زهرة العلا، ولا أنسى أغاني فيلم "الحلو حياتي" من تأليف مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل، ومعه محمد الموجي الذي لحّن "يا قلب خبي" من كلمات مرسي جميل عزيز، وأذكر له الأغنية التي كتبها لمحرم فؤاد "الحلوة داير شباكها"، "شجرة فاكهة ولا في البساتين"، كذلك فيلم "ليالي الحب" الذي مثله مع أمال فريد وعبد السلام النابلسي، ووداد حمدي إلى جانب محمد عبد القدوس، ولا أنسى أغاني مأمون الشناوي التي لحّنها محمد عبد الوهاب للمطرب الشاب كما لحّن له "أنا لك على طول" و«توبة" و«عشانك يا قمر" و«شغلوني" و«إيه ذنبي إيه". كذلك من ينسى فيلم "موعد غرام" مع فاتن حمامة، كذلك فيلم "دليلة" و«الخطايا" و«معبودة الجماهير" وأخيراً "أبي فوق الشجرة". *** كان طه حسين وجمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ، ولكل منهم ما له في وجدان الجماهير العربية، من أيام الزمن الجميل الذي مضى. فالأيام الجميلة تلك رأينا فيها ليس فقط ذكريات الحب الجميلة بأفراحها والقليل من أحزانها، كما عشنا الطموح الذي كنا نحمله في أفق مفتوح من الآمال العريضة، وذلك في زمن كل ما فيه يدعو إلى الصعود، ويدفع الطامحين إلى التقدم مع قادة الثورة الذين كانوا هم أنفسهم أبناء شرائح الطبقة الوسطى التي تمردت على الطبقات الإقطاعية والرأسمالية، لتجد لها مكاناً تحت الشمس، وفاتحة الأمل لشرائح الطبقة الأدنى كي تحصل على نصيب عادل في ملكية الوطن وحق التعليم المجاني والعلاج.. إن تاريخ عبد الحليم حافظ الفني هو ذاته تاريخ الثورة، خصوصاً في أغانيه الوطنية. لقد عبرت أغانيه عن مشاعر كل فرد فينا، نحن جيل الثورة الذي فتح عينيه على الدنيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وطفولته مع مأساة فلسطين، وما إن تجاوزنا العاشرة من عمرنا حتى عشنا انتصار مصر على الحلف الثلاثي عام 1956، وعلى زمن منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الوحدة المصرية السورية، وعلى حركات التحرر العربية، ونيل البلاد العربية استقلالها وغير ذلك. وكان زمن عبد الحليم حافظ هو زمن صعود ثورة يوليو، وسجلها وأمانيها. لقد مضى عبد الحليم يغني لمصر إلى أن توفاه الله سنة 1977، في زمن السادات، أي بعد وفاة عبد الناصر بسبع سنوات، وبعد أن أطاح السادات بنفوذ الناصريين في مايو 1971، وطرد الخبراء الروس من مصر في يونيو 1972، وإلغاء معاهدة الصداقة المصرية السوفياتية في مارس 1977، وبعد أن افتتح العام الذي مات فيه عبد الحليم بما يسمى "ثورة الخبز في مصر" وأسماها السادات "انتفاضة الحرامية"، وأصبح الزمن غير الزمن ودخلنا فيما وصفه الأبنودي في ديوانه "المشروع والممنوع" هذا زمن الأونطة والفهلوة والشنطة ينهي جابر عصفور سيرته الرائعة....