* ما حكم تمويل البحث العلمي والنانو تكنولوجي لعلاج السرطان للفقراء من أموال الزكاة ؟ ** يجيب أ. د. على جمعة بالقول: يعد البحث العلمي نقطة البداية الصحيحة للعرب والمسلمين حتى يضعوا أقدامهم مرة أخرى في خريطة العالم, ويشاركوا بحضارتهم في بناء الحضارة الإنسانية الحديثة, في وقت يحتاج العالم فيه إلى منهج البحث الإسلامي. وإلى تراث المسلمين, وطريقة تفكيرهم, وتجربتهم في استيعاب الحضارات, والسبيل إلى كل ذلك هو إحداث نهضة في مجال البحث العلمي الإسلامي ليكون امتدادا حقيقيا لعلوم المسلمين الأوائل ومظهرا للصلة بين أصالة السلف ومعاصرة الخلف. والإسلام يحرص دائما على مواصلة العلم والتطور ويقف ضد التحجر والجمود, فالعقل المسلم والثقافة الإسلامية أخرجا أوروبا من ظلمات القرون الوسطى إلى أنوار العلم والمعرفة, وأفرزت الأسس المنهجية للتفكير العلمي القائم على البحث والملاحظة والتجريب المعتمد على القياس والتدرج من الجزئيات إلى الكليات, وصولا إلى النظريات العلمية وغيرها من الأسس العلمية التي كان للمسلمين فيها فضل السبق. ولكن هذه النهضة لا تتحقق ولن تتحقق, إلا من خلال تقدم العلوم والإبداع ورعاية الموهوبين, ودعم البحوث والدراسات في جميع المجالات بما يعود بالخير والنفع على الأمة العربية والإسلامية, ولهذه الأهمية التي أولاها الإسلام للعلم تنزلت أول آية من القرآن تأمر بالقراءة والعلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. ومن جهة أخرى, حرصت الشريعة الإسلامية على التوزيع العادل للثروات, ولم يرد الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء, ولذلك وردت الشريعة في الأموال بحقوق واجبة وأخرى مستحبة, ومن أهمها الزكاة, التي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة, وحددت الشريعة لها نصابها ومقدارها ومصارفها. وقد حدد القرآن الكريم مصارف الزكاة الثمانية في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. وفي المصرف السابع للزكاة {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} قال أكثر العلماء على أنه يراد به الجهاد, أي أنه يصرف في سبيل الله, فيجهز به الجيش من عتاد ورواتب للمقاتلين وغير ذلك من المستلزمات الخاصة به. وهناك رأي آخر -وهو رأي الموسعين من العلماء- يقول أن الكلمة عامة, وأن سبيل الله في الأصل هو كل أمر يوصل إلى ما يحبه الله, فأدخلوا في ذلك كثيرا من الأعمال الخيرية, مثل بناء المساجد والمدارس, وعمل القناطر, وإصلاح الطرق التي يحتاج إليها المسلمون وكذلك دعم الدعوة والدعاة الذين ليس لهم قدرة على أن يتكفلوا بالدعوة, وأدخلوا في ذلك أيضا نشر العلم, وقالوا: هذه كلها داخلة في سبيل الله, فإذا لم يوجد من يتبرع لها, فإنه يمول صاحبها من الزكاة. ففي تفسير الإمام الفخر الرازي عند تفسير مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} ما نصه: واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} لا يوجب القصر على كل الغزاة, فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير.. لأن قوله {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} عام في الكل (التفسير الكبير 90/16). وقال الإمام الكاساني الحنفي: وأما قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} فعبارة عن جميع القرب, فيدخل فيه كل من سعي في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا (بدائع الصنائع 45/2). ونقل الإمام ابن قدامة الحنبلي عن أنس بن مالك والحسن رضي الله عنهما ما نصه: ما أعطيت -أي من الزكاة- في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية (المغني 323/6). وبالقياس على هذه المفردات وحيث أصبح البحث العلمي في العصر الحالي في غاية الأهمية والضرورة لنهضة العرب والمسلمين, فإنه يكون من فرض الكفاية على الأمة, وواجب على كل قادر من العرب والمسلمين, أن يقوموا بدعم ذلك من خلال تمويله من أموال الزكاة المفروضة, باعتبار البحث العلمي أحد أوجه مصارف الزكاة والذي يدخل تحت المصرف السابع للزكاة وهو {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} وهو الأمر الذي يعلي كلمة الإسلام, ويقوي شوكة المسلمين, وينزع عنهم شوائب الجهل والتخلف, ويرفع من شأن الأمة الإسلامية والعربية بين الأمم بعد أن تخلفت بسبب الجمود الفكري والتصحر الثقافي, وذلك بالمقارنة بالأمم الأخرى التي كنا يوما نسبقها في جميع المجالات والعلوم. كذلك يمكن دعمه بالصدقات التطوعية, مما يرجو به المسلم والمسلمة ثواب الله -سبحانه وتعالى- فضلا عن التصدق من وصايا أموات المسلمين مما خصصوه للخير, وبالدفع من ريع الأوقاف وعوائدها. ومن هنا كان أخذ الزكاة في مجالات البحث العلمي جائزا شرعا, وذلك على مذهب الموسعين, وذلك لدعم المؤسسات التي تتبنى تشجيع البحث العلمي والأكاديمي ودعم نشاطها والتوسع فيه وتكرار تجربتها, بل هي من أولى المصارف حينئذ بالدعم من أموال الزكاة, كما يجوز قبول الصدقات لأغراض تلك المؤسسات, حيث إن الصدقة أمرها واسع, فهي جائزة للغني وللفقير, والمسلم وغير المسلم. لقد أصبح من الضروري أن يدرك المشتغلون بالعلم الواقع إدراكا صحيحا, وأنه لابد من معرفة الفرق بين الشخصية الطبيعية والشخصية الاعتبارية, والفرق بين فقه الأمة وفقه الأفراد, وطريقة الاختيار الفقهي سواء كان من جهة رجحان الدليل, أم من جهة مراعاة المصلحة, أم بالانتقاء في كل مسألة على حدة من الفقه الإسلامي الواسع الموروث بما فيه اجتهاد من السابقين مع القيام باجتهاد جديد في المسائل المحدثة, وأنه لابد من مراعاة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال حتى نحقق المصالح ولا نخرج عن المقاصد الشرعية.