بقلم: إبراهيم غرايبة* ثمّة إشارات وتحولات وظواهر كثيرة تؤشّر (ربما) إلى جغرافية سياسية جديدة في العالم مجيء دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية وما يتوقع من سياسات جديدة يقدم عليها مثل الانسحاب من حلف الأطلسي (الناتو) وإنهاء مستوى التحالف مع أوروبا أو تخفيضه والتقارب مع روسيا والانفصال البريطاني عن الوحدة الأوروبية. وإذا أضيفت إلى ذلك تداعيات العولمة والتحولات المصاحبة لتقنيات الحوسبة والاتصال فإن ذلك يفتح المجال لتخيّل عالم جديد ينشأ ويبدو للجغرافيا فيه معنى جديد أيضاً وإن لم تتشكل خريطةٌ سياسيةٌ جديدةٌ فإن العلاقات والتحالفات والصراعات قد تمضي في اتجاهات جديدة. يبدو الشرق الأوسط متجهاً إلى العزلة والتراجع الاقتصادي. وبطبيعة الحال تراجع أهميته السياسية والجيوسياسية ولن يكون مفاجئاً أن تدعم روسيا دوراً أوروبياً وخصوصاً لألمانيا في الشرق الأوسط يواجه الدورين التركي والإيراني المقبلين أو يشارك فيهما. وتستعيد روسيا بذلك أفقها الجغرافي مع أوروبا بدلاً من إيران وقد تتجه دول الخليج نحو الهندوباكستان والصين لأجل التحالف الاقتصادي والاستراتيجي ومواجهة إيران لكن باكستان مسكونةٌ بهواجس الهند وأفغانستان أكثر من أي مسألة أخرى. تبدو روسيا في المشهد الجديد تلتقط أنفاسها وتعود إلى مسرحها التاريخي الجغرافي وتنظر في حساباتها القادمة بعودة إيران وكوبا إلى التحالف مع الولاياتالمتحدة فهي تكسب البرازيل وتعزّز فرصتها مع الهند والصين وتركيا وربما تمتد شراكتها وتحالفاتها إلى أوروبا إذا انسحبت الولاياتالمتحدة بالفعل من حلف الأطلسي. لكن هل يعقل أن تعزل الولاياتالمتحدة نفسها عن أوروبا والشرق الأوسط وتكتفي بمجالها في أميركا اللاتينية وشرق آسيا ..وربما إيران؟ وتبدو الهند تبحث عن موقع جديد يتجاوز الشراكة الاستراتيجية مع روسيا أو الولاياتالمتحدة غيّرت تقنيات الحوسبة والاتصالات في اتجاهات الصراع بدلاً من أن تكون خارجيةً بين الدول والأقاليم لتكون داخليةً وأهلية فهي تنظر إلى نفسها دولةً عظمى تقود محوراً عالمياً مستقلاً وترى جنوب آسيا والمحيط الهندي وبحر العرب مجالاً حيوياً رئيسياً. وإذا استعادت الولاياتالمتحدةإيران حليفاً استراتيجياً فهل تعود بذلك جغرافيا الصراع والنفوذ إلى ما كانت عليه قبل العام 1979؟ لقد تعرّضت الخريطة الناشئة عن الحرب العالمية الثانية لتغيّرات مهمة في الفترة الماضية كما حدث في الاتحاد السوفياتي والبلقان وما يُتوقع حدوثه في الشرق الأوسط. لكن التغير الأهم في محتوى الجغرافيا ومعناها مثل الصعود الاقتصادي الآسيوي وسلسلة الصراعات التي لم تتوقف منذ الثورة الإيرانية عام 1979. وربما يكون المشهد الجيوسياسي الجديد ليس قائماً على قواعد الصراع التي ألفها العالم لكنه تنافس سياسي واقتصادي جديد تنشئه التقنيات والموارد الجديدة فالتقنية الجديدة تعني موارد جديدة وأسواق أعمال جديدة. وبطبيعة الحال أوضاعاً اجتماعية وسياسية وثقافية جديدة... كانت حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرنين الخامس والسادس عشر والثورة البريطانية (1688) من المتواليات الاقتصادية والاجتماعية للمطبعة وآلات النسيج! وكان الربيع الأوروبي (1848) المؤسس للديمقراطية الأوروبية الحديثة من متواليات الآلة البخارية. والثورة الشيوعية في روسيا (1917) كانت من متواليات الكهرباء وسكة الحديد. والثورتان الفرنسية (1789) والأميركية (1776) كانتا من متواليات التحول الاجتماعي والسياسي المصاحب لتطور إنتاج الملح. وكان انهيار الشيوعية والاتحاد السوفياتي (1989) مصاحباً لتطور تقنيات الحاسوب والإعلام كالبث الفضائي والفاكس. وكان الربيع العربي (2011) من متواليات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. هل يمكن التصدّي لحراك التقنية وما يصحبها من تحولات؟ يقول التاريخ لا يمكن بل يزيد ذلك الأزمات والخسائر فروسيا القيصرية رفضت إدخال تقنيات النسيج وسكة الحديد بعكس مفتاح الخروج من هذا الصراع أن تحاول الشعوب إدارة صراعاتها وتنافسها على تنظيم الموارد والفرص والخدمات على نحو سلمي بقية دول أوروبا. وكان تفسير القيصر لذلك بوضوح وصراحة إنها تقنيات تشجع على الثورة ثم كرّرت الشيوعية أخطاء القيصر الروسي في محاولة حظر التقنية الجديدة ومنع الناس من الاستفادة منها واستخدامها. وفي بريطانيا بذلت الملكية جهوداً كبرى لمنع آلات النسيج واستخدمت الكنيسة لتحريم منتجات هذه الآلات ومنع استخدامها وحاولت منع التوسع والاتجاهات الجديدة في إنتاج الملح في أميركا والهند. كما حاولت الطبقات الأرستقراطية في فرنسا السيطرة على إنتاج الملح وتسويقه.. وفي سورية وليبيا والعراق حظرت الإنترنت وأجهزة الفاكس والاتصالات ... ثبت أن الدول التي تواجه التحولات والحقائق الجديدة بالحظر والقمع تتعرّض للفوضى والاحتجاج المدمر وأن الطبقات التي تحاول الحفاظ على امتيازاتها بالمواجهة والعداء تعصف بنفسها. غيّرت تقنيات الحوسبة والاتصالات في اتجاهات الصراع بدلاً من أن تكون خارجيةً بين الدول والأقاليم لتكون داخليةً وأهلية وسيكون مفتاح الخروج من هذا الصراع أن تحاول الشعوب إدارة صراعاتها وتنافسها على تنظيم الموارد والفرص والخدمات على نحو سلمي ففي هذه القدرات الجديدة التي تمتلكها الشعوب تعيد من جديد تشكيل خريطة العالم وعلاقات الدول والأقاليم وصراعاتها.. فهل أعطت الكوارث التي حلت في الشرق العربي وأفغانستان والصومال للشعوب والدول الكبرى والمؤثرة أن تعيد النظر في تنظيم الصراع؟