ثمار قلوبنا وفلذات أكبادنا تربية الأبناء والحرص على متابعة تحصيلهم العلمي إن أبناءنا هم ثمار قلوبنا وفلذات أكبادنا غرس الله تعالى حبهم في فطرتنا وجعلهم زينةً في حياتنا قال سبحانه: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ولقد أكّد صلى الله عليه وسلم في أكثر من وصية بضرورة العناية بهم وبتربيتهم وتعليمهم. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة: (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم). وروى الطبراني عن على كرم الله وجهه مرفوعا: أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم وحب آل بيته وتلاوة القرآن. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الشأن. والتربية الصالحة للطفل هي التي تُنشئ الشاب الصالح الذي يخدم دينه وأمته ووطنه ولقد وضع لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم مادة أساسية مفادها أن الإبن يشبّ على دين والديه. أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلم: ما من مولود إِلا يولد على الْفطرة فأَبواه يُهَوِّدَانه أو َيُنصِّرَانه أو يُمجِّسَانه. انحرافات.. ومستوى متدن ألا وإن ما نرى عليه بعض الأبناء داخل المجتمع من انحرافات وما نسمع من المظاهر السلبية عليهم كتعاطي السجائر بل والمخدرات وتدني المستوى التعليمي ومحاولة ضرب المعلمين والمعلمات وما إلى ذلك من الزيغ وفساد الأخلاق إنما ذلك صادرٌ عن اللامبالاة والتساهل والغفلة من طرف الوالدين وتخلّيهم وانشغالهم عن التوجيه والتربية ولله در الشاعر حين قال: ليس اليتيم من انتهى أبواه من * همّ الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم الذي تلقى له * أمًّا تخلت أو أبا مشغولا فالأسرة أيها المسلمون هي المحضن الأول الذي ينشأ فيه الأبناء ورب الأسرة وزوجته كلاهما شريك الآخر في تلك المؤسسة الاجتماعية التي أمر الإسلام برعايتها والحفاظ عليها ولا يمكن أن يتحقق النجاح للأسرة إلا إذا تعاون كل من الرجل والمرأة في تربية الأولاد والولد يتأثر بوالديه في أخلاقه وسلوكه وتصرفاته واتجاهاته الدينية والعقائدية. ولا نجد تصويرًا لأثَر الأسرة في تنشئة الطفل السليم أبلغَ في التعبير من قوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ). الأعراف: 58 فما أشبهَ الأسرةَ بالأرض الخصبة الطيبة التي تنبت أطفالاً ذوي طباع خيِّرة نقية وسلوك نبيل وما أشبه الأسرةَ المنهارةَ في أخلاقها وسلوكِها بالأرض الخبيثة التي لا تنبت إلا نباتًا قليلاً حجمُه ونفعُه فتخرج أطفالها بطباع قاسية وسلوك سيِّئ .. فعليكم أيها الآباء والأمهات مراعاةِ أولادكم وحمايتَهم من ضياع الوقت وانحراف العمل والسلوك تفقّدوهم في كل وقت وامنعوهم من معاشرة ومصاحبة من يُخشى عليهم منه الشر والفساد فإنكم عنهم مسئولون وعلى إهمال رعايتهم وتأديبهم معاقبون. قال صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. التدرّج مطلوب هذا واعلموا أن الأمور لا تؤتى غلابًا كما قال الشاعر وإنما التدرّج مطلوب في التقويم فقد نقل الحافظ عن سعيد بن جبير الحث على التدرج في أخذ الطفل بالجد وهذا يتمشى مع الحكمة التي جاءت بها الشريعة وطبيعة النفس الإنسانية التي تستثقل أخذها بالعزيمة بلا تدرج. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع لنا منهجا نبويا خالدا مؤسِّسا لأساليب التربية الصحيحة للفرد ابتداء من مرحلة الطفولة المبكرة وذلك في مواقف كثيرة منها موقفه مع سَلَمة ابن أم سلمة وكان ربيبه نشأ في حجره صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج بأمه جلس سلمة إلى طعامه وهو بعدُ صبيا فأخذت يده تطيش في الصحفة فأمسك بها رسول الله قائلا له: يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك. إنه تدخُّلٌ فوريٌ سريعٌ لإيقاف السلوك الخاطئ حتى مع الصغير الذي لا يعي ما يفعل وعدم تأخير التوجيه عن وقته إنه تعويد وترويض منذ الصغر. وللأسف إن كثيرا من الآباء والأمهات تركوا المجال لأبنائهم وبناتهم وأهملوا تأديبهم بمعاني الأخلاق وفرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغارا فلم ينفعوا أنفسهم ولم ينتفعوا بهم كبارا. أيها المسلمون: إن الرجال لا يولدون بل يُصنون يقول أساتذة علم النفس: أعطونا السنوات السبع الأولى للأبناء نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء بقية حياتهم وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصلاح من الله والأدب من الآباء وعن ذلك عبر الشاعر بقوله: وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا * على ما كان عَوَّدَهُ أبُوهُ وَما دان الفتى بحجىً ولكن * يعوِّدهُ التديّنَ أقربوه حرص شديد.. قال الإمام الغزالي رحمه الله في رسالته أنجع الرسائل: الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه فإن عُوِّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه وكل معلم له ومؤدِّب وإن عوِّد الشر وأُهْمِلَ إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له. ولهذا كان السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على التحصيل العلمي والخلقي للخلف. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن الكريم. وقال مالك بن أنس: كانت أمي تجهز عمامتي وأنا صغير قبل ذهابي لحلق العلم فتقول: يا مالك خذ من شيخك الأدب قبل العلم !. (ترتيب المدارك عياض 1/130). بل إنهم كانوا يعطون أبناءهم مكافآت على حفظ الأحاديث النبوية والمكافآت حقيقة أمر تربوي في التشجيع على التعليم. قال إبراهيم بن أدهم: قال لي أبي: يا بني اطلب الحديث كلما سمعت حديثا وحفظته فلك درهم فطلبت الحديث على هذا. بل بلغ من اعتنائهم بأبنائهم أنهم كانوا حريصين على متانة الرابطة بينهم وبين معلّميهم فكانوا يحزنون إذا غابوا عن الأولاد فترة بسبب من الأسباب لخوفهم على الأولاد أن لا يُؤدبوا على ما يريدون ويشتهون. ذكر الراغب الأصفهاني أن المنصور بعث إلى مَن في الحبس من بني أمية من يقول لهم: ما أشد ما مرّ بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا. ورحم الله مالك بن نبي وقد جاءه رجل يسترشده لتربية مولود له فسأله: كم عمره؟ قال: شهر قال: فاتك القطار. ا.ه أيها المؤمنون: إن الأبناء هم حديث اليوم وحديث كل يوم بهم تقر عيون الآباء والأمهات وبهم يزدان الكون والحياة وقد علمنا القرآن الكريم في الدعاء أن نقول: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً). الفرقان:74. فعليكم تقديم أقصى ما تستطيعون لأبنائكم أغرسوا فيهم الجد والمثابرة. ربّوهم على حب العلم والسعي لأجله اجعلوا منهم مبدعين حقيقيين فقدراتهم كبيرةٌ ومواهبهم متميزة ادفعوهم إلى الإبداع دفعاً كونوا معهم في كل شؤون حياتهم. وكم يحكي لنا التاريخ صورا من حياة أطفال أحسن أهلوهم تربيتهم فأفلحوا وصاروا رموزا على جبين التاريخ. فهذا سفيان الثوري رحمه الله العالم المشهور يُروى أن والده توفى وهو صغير وله إخوة فرأى أن يترك العلم والدراسة ليطلب العيش والرزق فقالت له أمه جزاها الله خيرًا: أي بني اطلب العلم أكْفِك بمغزلي فانطلقت الأم تغزل وتكافح وانطلق سفيان يتعلم العلم حتى أصبح سفيان من أعلام المسلمين الكبار وكل ذلك في ميزان تلك المرأة الصالحة. وضع سيّء إن الناظر لواقعِ الأمة اليوم يجدُ وضعاً سيئاً لم يمرّ عليها طوالَ الأزمنةِ المتقدمة لقد أوشكت أن تُعدم كثيرٌ من المبادئِ وللأسف نحن في وقت يغالبنا فيه المجتمع على أبنائنا بمغرياته البراقة ووسائله اللماعة لملء فراغهم بما لا ينفع ولا يغني عنهم من الجدِّ شيئاً ولا يحبّب إليهم العلم ولا يبني لهم مستقبلاً ولا يشدهم إلى عزائم الأمور ومطامح ذوي الرشاد فعليكم أن تزاحموا الشر الذي يحيط بأبنائنا ومن أخلص نيته لله وعلم الله منه الإخلاص والرغبة الصادقة في الخير فإن الله يؤيده ويسدده. رُوي عن الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: علموا أولادكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وفي رواية ثانية: أدبوا أولادكم. فكأنه رضي الله عنه بفكره الثاقب يعني شباب عصرنا الحاضر ليتسلح بسلاح العلم والأدب الإسلامي الرفيع وهذا هو الذي يجب أن نزرعه في أعماق صغارنا _ شباب الغد-. فلا تجعل أيها الأب ابنك يغتر بثروتك ويتّكل عليك في مستقبل أيامه فلا يأخذ نفسه بالجد والتعب في تحصيل العلم ضانّا _خطا أو غرورا-أن المال هو كل شيء في الحياة. نعم إن المال بلا شك له قيمته في حياتنا ولكن العلم هو الذي يرسم الطريق الصحيح لاستغلال المال. ولا ينكر أحد ما للعلم من منافع كثيرة في شؤون الحياة كلها ولكن هذه المنافع تكون أشدّ وأكثر نفعا للبشر لو صحب العلم الإيمان لأن ثمرة الإيمان حسن الخلق وهو غاية ما يتطلّبه المجتمع الإسلامي وإليه أشار شوقي بقوله: رأيت العلم لا يبني رجالا * ولا يغني عن الأخلاق شيئا أمانةٌ عظيمة وأخيرا _ أقول _ أيها المسلمون: لا يكفي بأي حال من الأحوال أن يزجّ الأب بابنه أو ابنته في المدرسة ثم يتركه هملا بلا ملاحظة ولا مراقبة ولا توجيه بل عليه أن يشارك المدرسة أو أية مؤسسة تعليمية في تربية ولده وأن يتعهّده بالرعاية والتوجيه وأن يلاحظ سلوكه داخل المدرسة وخارجها وأن يبيّن له بصفة مستمرة الصواب وأن يبعده عن الخطأ برفق ولين. وأن يعينه على مشاقّ العلم ومتاعبه قال ابن القيم -رحمه الله في التحفة صفحة 146: وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه وأنه يرحمه وقد ظلمه ففاته انتفاعه بولده وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء. فلا تظنوا عباد الله أن واجب التربية ينتهي عند حدود التنشئة الجسدية أو يقتصر على تسجيلهم في المدارس فحسب بل أنتم معنيون أيضاً بتنمية قدراتهم العقلية ومداركهم المعرفية وبتوجيه صفاتهم النفسية وسلوكهم الاجتماعي وأنتم عن ذلك يوم القيامة مسؤولون. قال صلى الله عليه وسلم: إن الله سائل كل رجل عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيّعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته. رواه ابن حبان. وإنها لمسؤوليةٌ جسيمة وأمانةٌ عظيمة فالواجب على كل والد أن يتقي الله في أولاده وأن يعمل على تأديبهم وتربيتهم وتنشئتهم على عقائد الدين وأعمال الإسلام وآدابه العظيمة وعليه تقديم أقصى ما يستطيع لهم يغرس فيهم الجد والمثابرة يربّيهم على حب العلم والسعي لأجله. يجعل منهم مبدعين حقيقيين فقدراتهم كبيرةٌ ومواهبهم متميزة. يدفعهم إلى الإبداع دفعاً يكُنْ معهم في كل شؤون حياتهم يتواصل مع مدارسهم ومعلّميهم حتى يكون على بيّنة من مستواهم الدراسي ومسيرتهم الأخلاقية فإنه لم تتدنّ مستويات كثير من أبنائنا الطلبة إلا بعد أن أهملنا متابعتهم دراسياً ولم تنحرف أخلاقهم إلا بعد أن تركنا الحبل على الغارب حتى ابتعدوا عن الرقابة الأسرية. وليكن نصب أعيننا جميعاً قول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). كل قُفل له مفتاحه وأخيرا أيها المسلمون: هذه إيماءة أو إشارة ارتأيت أن أقدها لكم ولها ما وراءها وكل قُفل له مفتاحه وكل عقل له ما يثير اهتمامه.. أطفالنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض فلنحسن تربيتهم والتعاملَ معهم... نسأل الله الذي حمّلنا هذه المسؤولية أن يعيننا عليها وأن يصلح لنا نياتِنا وذرياتِنا اللهمَّ اجعلهم وأبناءنا وبناتنا هداة مهتدين اللهمَّ اكفنا وإياهم شرَّ الأشرار وكيد الفجار يا عزيزُ يا غفَّار. اللهم ارفع عن أمتنا الغلاء والوباء وقها الزلازل والمحن وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم وفّق من قلدته أمرنا واجعل عمله في رضاك وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين. مساهمة: الشيخ أبو إسماعيل خليفة