بقلم: سامح المحاريق* هل وصل العصر الذهبي الأوروبي إلى نهايته؟ وهل ستعود أوروبا إلى صراعاتها من جديد؟ مع دخول شتاء 1989 كان مئات الآلاف من جانبي مدينة برلين ينقضون على جدار برلين في مشهد لم يلبث أن تحول إلى أيقونة عالمية ومع موسم الكريسماس في السنة ذاتها كان حفنة من الجنود الرومانيين تردي الديكتاتور المرعب نيكولاي تشاوشيسكو قتيلاً بعد محاكمة قصيرة لا تليق بإنهاء عصر الطاغية الذي ما زالت رومانيا تحاول التعافي من ظله الثقيل الذي أطبق على سمائها لعقود من الزمن. رفعت هذه المشاهد العاطفية التي نقلت مع شحنة إعلامية متفائلة سقف الطموحات الأوروبية ليناهز السماء فالاتحاد الأوروبي يمكن أن يصبح حقيقة ودائرة الانتقام التي تورط الأوروبيون في فصولها على امتداد قرون من الزمن يمكن أن تصلح جزءاً من الماضي فالفرنسيون والألمان والإيطاليون يعيشون أجواء من التفاهم ويتطلعون إلى اطلاق مرحلة جديدة من تاريخ القارة. في تشكلات العقل الأوروبي الحديث تقود ثلاث مدارس أساسية توجهات المزاج العام الألمان والفرنسيون ومن ورائهم الإيطاليون والإسبان على ضفاف المتوسط وعدا ذلك فالمشاركة في تشكيل العقل الأوروبي مشاركات هامشية من اليونان ورومانيا وبولندا والدول الاسكندنافية. العقل أو الروح الأوروبية إذا كنا سنأخذ منظوراً رومانسياً إلى حد ما والفترة التي نعالجها تشجع على ذلك اتُخذت لتبرر صعود الأوروبة مجموعة من الأفكار المرتبطة بالحرية والمساواة والتسامح والرفاه الاجتماعي أي ما يوحي بتقديم إبراء ذمة من التركة الثقيلة لحروب القارة التي أوصلتها إلى الحرب العالمية الثانية الأكبر والأشرس في تاريخ البشرية ولكن ذلك لم يكن يقوم على أرضية صلبة كما أظهرت أزمة كورونا الأخيرة حيث توجه العديد من الدول بانتقادات للتضامن الأوروبي وقتها وشعرت بأن الأزمة كشفت جزءاً من الخلل القائم في أوروبا. الدخول إلى الجنة الأوروبية بقي حلماً يراود الكثير من الدول في محيط القارة العجوز ولكن القارة على ما يبدو لا تتحمل تداخلاً ثقافياً كبيراً وتفضل أن تحصل على حاجتها السكانية ضمن عملية اندماج يمكن أن تتحول إلى تنميط مع الوقت فالقادمون الأرثوذكس بجانب الكاثوليك والبروتستانت يحدون من استقرار العلمنة التي وجدها الأوروبيون حلاً لحروبهم القائمة على أسس قومية دينية بينما يشكل المسلمون تحدياً مباشراً للقيم الأوروبية الحديثة ونزعتها للتسوية والاختزال والاختزال في هذا السياق يعني إقرار نموذج الإنسان الأوروبي المنتج الذي يتسق مع القيم الجديدة بصورة آلية طالما أن استقراره الاقتصادي الذي تحركه العملة الموحدة تفرضه القوى المهيمنة في السوق الأوروبي ألمانيا وبدرجة أقل فرنسا. مؤخراً بعد صعود تيارات التطرف الديني التي تجد وشائج مع حالة الاضطهاد والإقصاء للأقليات المسلمة في أوروبا أصبح المسلمون يشكلون صداعاً لأوروبا فاللجوء والهجرة غير الشرعية ومعدلات الخصوبة كلها عوامل جعلت تزايد أعداد المسلمين يرهق ومن ثم يدفع ببرامج الاندماج إلى الفشل وأصبحت أوروبا أمام حقيقة جديدة ومخيفة إلى حد ما وسؤال يتهرب منه الجميع هل يبني المسلمون الغيتو الخاص بهم في القرن الجديد وهل يعني ذلك بالتبعية أن تستيقظ الفاشية من جديد؟ الأيام الأخيرة العاصفة في فرنسا بعد مقتل المدرس الفرنسي الذي عرض الرسوم المسيئة لنبي الإسلام والتصريحات الرئاسية المتشنجة التي أخذت تتحدث عن قيم الجمهورية وكأنها مناقض كامل ونهائي وقاطع مع القيم الإسلامية والمقاطعة للمنتجات الفرنسية والتراشق مع تركيا ودخولها طرفاً على الأزمة كلها عوامل تطرح مخاوف كثيرة حول ما إذا كان المسلمون سيتحولون إلى وقود جديد لإذكاء الماكينة القومية في فرنسا وغيرها من الدول وهل سيدفع ذلك إلى صراع داخل الاتحاد الأوروبي خاصة أن ألمانيا تبدي تعطشاً لمزيد من اللاجئين أمام مخاوف ديموغرافية هائلة تذهب إلى تراجع كبير في عدد سكانها خلال العقود المقبلة؟ دخول ماكرون على الخط يشكل تعقيداً للموقف لأنه يظهر تحالفاً مع اليمين المتطرف فالدفاع عن حرية الأفراد والجهات في التعبير مع أنه يظهر وهماً عند التطرف للهولوكوست مثلاً يختلف عن تبني الدولة نفسها لرسومات مسيئة بهذه الصورة فالخلاف بين المسلمين الفرنسيين ومن يتبنون الصور من الفرنسيين يبقى مسألة صراع داخل المجتمع يمكن أن يتم حله من خلال الفعل السياسي بتعديل القوانين مثلاً وإلحاق الرموز الدينية بالهولوكوست أو غيره من المقدسات الجديدة أو حصرها النقد في مجال الأديان في المجال الأكاديمي أما أن تنحاز الدولة ضد أحد مكوناتها فهو الأمر الذي ينذر بعملية مباركة ضمنية لأي عنف مستقبلي فهل ستنتظر فرنسا مشهداً مشابهاً لتحطيم النازيين لمحلات اليهود في المدن الألمانية؟ وما الذي يمكن أن تفعله في مثل هذه اللحظة؟ وهل تمتلك أصلاً تصوراً لذلك؟ أم أن الأمر لا يتعدى محاولة مزدوجة للحصول على أصوات انتخابية بين اليمين لتعويض تراجع شعبية الرئيس ماكرون والتهام أزمة السترات الصفراء الاحتجاجية داخل أزمة أكبر منها؟ ما يحدث في فرنسا لا يمكن تجاهله لأن فرنسا تسيطر على جانب كبير من تشكيل العقل أو الروح في أوروبا والنقاش الذي يدور في فرنسا عادة ما يفرض نفسه على الدول الأخرى بينما العكس لا يحدث عادةً فالدنمارك أو بلغاريا لا تستطيعان إحداث الأثر نفسه في التوجهات الأوروبية العامة ولذلك فاللعبة التي يدخلها ماكرون أكبر منه ومن إمكانياته السياسية والفكرية وأخطر بكثير من التفاعلات الحالية التي أخذت تتشكل على وقع رعونة سياسية تتجاهل ما هو اقتصادي واجتماعي.