غادر الإمام المصلح والعلاّمة الشيخ عبد الحميد بن باديس، هذه الدنيا، في مثل هذا اليوم؛ 16 أفريل من سنة 1940 بقسنطينة، بعد صراع قصير مع المرض، وصراع طويل مع المستعمر وما جلبه إلى الجزائر من تجهيل للشعب، ومحاولة للقضاء على أبرز مقومات هذه الأمة. وبعد 85 سنة من رحيل صاحب مقولة "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب"، تستذكر الجزائر والعالم العربي، أعمال الشيخ التي ساهمت، حسب المؤرخين والعلماء، في نشر الوعي، ومحاربة الأمية والجهل رغم التضييق الذي مارسته السلطات الفرنسية عليه، التي لم يهنأ لها بال حتى تم وضع الجسم الهزيل للشيخ تحت التراب. لكن البذرة التي زرعها في تلامذته وجمعية العلماء المسلمين، أنبتت، واستمرت إلى أن انفجرت ثورة التحرير التي جاءت باستقلال الجزائر. كرِه المستعمِر أكثر من أيِّ شيء آخر صاحب مقولة: "لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله لما قلتها" رغم محاولات بعض الأطراف تدليس تاريخ الشيخ عبد الحميد بن باديس والتي حاولت الربط بين وظيفة والده الذي كان يشغل منصب قاض في المحكمة الفرنسية بقسنطينة، وبين تساهل المستعمر مع الشيخ، بل أكثر من ذلك، حاولوا من خلال التلميح من جهة ومن خلال الإيحاء من جهة أخرى، ربط استمرار عمل جمعية العلماء المسلمين والسماح بظهورها خلال اجتماع نادي الترقي بالعاصمة سنة 1931، بموافقة فرنسا الاستعمارية. إلا أن القارئ المتمعن لسيرة الشيخ عبد الحميد بن باديس، يقف على حقيقة واحدة، وهي الكره الكبير الذي كان يحمله ابن باديس بين أضلعه وفي قبله، لفرنسا، كيف لا وهو صاحب المقولة الشهيرة: "لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله، لما قلتها"؛ تعبيرا منه عن رفضه اتباع فرنسا حتى ولو كانت في مسألة عقائدية تخص التوحيد. وقد حارب أفكارَ فرنسا وما كانت تروّج له عبر العديد من المقالات في الصحف التي كان أسّسها على غرار الشهاب، والإصلاح، والمنتقد والبصائر، والتي كانت في كل مرة يتم إغلاقها من طرف المستعمر نتيجة تعارضها مع السياسة الفرنسية، وعملها على بث الروح الوطنية، والكفاح في الشعب. لا يعترف بأن الاستعمار قضاء وقدر تسلَّح بالعلم لفضح خرافات فرنسا امتد نور علم الإمام المجدد والمصلح عبد الحميد بن باديس ابن مدينة قسنطينة، إلى كافة أرجاء التراب الجزائري، بل وصل مداه حتى خارج حدود الجزائر، إلى الوطن العربي، بعدما أبى الرجل إلا محاربة العدو بالعلم والقلم؛ إذ كان يعلم أن إعداد الأمة وإخراجها من براثن الجهل سيكون أول الخطوات في الجهاد ضد المحتل. كما كان يرى أن إصلاح العقيدة من أهم الأمور في إخراج فرنسا الاستعمارية من الجزائر في ظل انتشار بعض المعتقدات المسمومة، التي حاول الاستعمار زرعها بواسطة أذنابه عبر بعض الزوايا التي كانت مسخّرة لخدمته وسط الشعب، ومنها أن الاستعمار قضاء وقدر، ولا يجب محاربة هذا القضاء والقدر، فحاول الرجل بقدر المستطاع، وكان له الفضل في إنشاء جمعية العلماء المسلمين من أجل لمّ الشمل، ودحر التفرقة، والعبور بالأمة إلى بر الأمان. واجتهد دون كلل أو ملل حتى وافته المنية وهو مشغول بشأن تحرير بلده الجزائر. وحَّد الأمة وحدّد أبعاد الهوية الوطنية لخّص الشيخ عبد الحميد بن باديس المولود في شهر ربيع الأول من سنة 1307 هجرية الموافق ل 4 ديسمبر من سنة 1889 ميلادية، معالم الهوية الوطنية الجزائرية، في بيتين شعريين: شعب الجزائر مسلم... وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله... أو قال مات فقد كذب وهما البيتان اللذان استمد منهما بيان الفاتح من نوفمبر، معالمه. كما استمد منهما الدستور الجزائري أهم العناصر المتعلقة بالهوية الوطنية الجزائرية، حيث كان يرى الشيخ العلاّمة، أن الإسلام هو موحِّد الجزائريين، وهو الدين الذي سيمكّنهم من هزم العدو الفرنسي. وكانت جمعية العلماء المسلمين على يقين أن الحملة الفرنسية على الجزائر كانت، في ظاهرها، حملة لنهب الثروات والخيرات. وفي باطنها حملة صليبية للقضاء على الإسلام ببلاد المغرب العربي. كما فصل الشيخ العلاّمة ابن باديس المنحدِر من قبيلة صنهاجة ببجاية، في قضية العروبة، التي أرادت فرنسا أن تجعل منها قضية تفرق بها بين الجزائريين، فقال إن الجزائريين ينتسبون إلى العرب وليسوا عربا بالأصل. كما أكد تمسّك الجزائريين بأصلهم البربري الأمازيغي، الذي يجب أن يكون مفخرة لكل الجزائريين. دعم الرياضة وسيلة لجمع الجزائريّين كان الشيخ عبد الحميد بعيد النظر له رؤية مستقبلية للأمور، حيث كان يرى أن مستقبل الأمة في شبابها. كما رأى اهتمام الشباب بالرياضة، فقد ساند الشيخ هذا المنحى شرط أن يكون مؤطَّرا، وذا فائدة. وأراد من خلال دعمه للرياضة الوصول إلى قلوب هذه الفئة من المجتمع، وجعل الرياضة وسيلة للمّ شباب الأمة حول قضيتها المحورية، وهي التمسك بالمبادئ الإسلامية، والكفاح ضد محاولات فرنسا إذابة الشباب الجزائريين في المجتمع الفرنسي. اهتمام الشيخ عبد الحميد بن باديس بالشباب والرياضة، تم توثيقه من خلال مساهمته في تأسيس نادي مولودية قسنطينة سنة 1939، حيث أكدت شهادات قيام الشيخ بالتبرع وقتها، بمبلغ 20 فرنكا؛ إذ كان يرى في الرياضة وسيلة للحفاظ على الشباب من الانحراف، وجمعهم حول القضية الأم. وكان يرى هذه النوادي وسيلة من وسائل مقاومة المستعمر، والحفاظ على الهوية الجزائرية، وما تسجيل النادي الرياضي القسنطيني ل49 شهيدا في صفوفه من اللاعبين، إلا خير دليل على تمسّك الأندية الجزائرية بالقضية الأم. محاولة اغتيال ابن باديس وعلاقته بالزاوية العلوية حاولت فرنسا، بشتى الطرق، النيل من الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ من محاولة استمالته؛ إذ عرضت عليه وظائف سامية، إلى تهديده، وزجره، ومحاولة تكميم فمه من خلال إغلاق كل الجرائد التي كان يؤسسها؛ على غرار "البصائر" و"الشهاب"، بعدما أسس مطبعته الخاصة سنة 1925. كما فكرت فرنسا حتى في محاولة اغتياله، إذ تعرّض الشيخ لمحاولة اغتيال في 14 ديسمبر من سنة 1926، من طرف شخص قدِم من مدينة مستغانم، وتخفّى في شكل طالب علم، فحضَر معه درسا بجامع لخضر، وتجسس على الشيخ، وعرف طريقه، ومكان إقامته قبل أن ينقضّ عليه في جنح الظلام بأحد الأزقة بالمدينة القديمة، داخل نفق أو ما يُعرف بالسباط، حيث انهال عليه بدبوس أو هراوة، وتَسبب له في جرح بالرأس. كما حاول طعنه بالسكين، لكن مقاومة الشيخ حالت دون ذلك، قبل أن يتم القبض على الجاني، وتحويله إلى مقر الشرطة. وبينت التحقيقات أنه من أنصار الزاوية العلوية، وهو محمد الشريف مامين المنحدر من ولاية برج بوعريريج. لكن الزاوية العلوية نفت علاقتها بالحادث، مؤكدة أن علاقة أحمد بن مصطفى العلوي أو أحمد بن عليوة ببعض المشايخ الجزائريين على غرار الشيخ عبد الحميد بن باديس، كانت عادية. وقالت إن زيارة الشيخ عبد الحميد بن باديس للزاوية العلوية عندما كان مدعوا إلى فرح بمدينة مستغانم، وزيارة الزاوية لتناول وجبة عشاء بحضور أكثر من 100 تلميذ من أتباع جمعية العلماء المسلمين وعدد من أعيان المدينة، تنفي كل التهم الموجهة لهذه الزاوية التي تفتخر بالرسالة التي كتبها الشيخ عبد الحميد بن باديس، عن هذه الدعوة في مجلة "الشهاب" شهر سبتمبر من سنة 1931، والتي تدعو إلى التلاحم، وأن ما يجمع الجزائريين أكثر مما يفرقهم. وفاته طرحت العديد من التساؤلات لم يكن العلاّمة عبد الحميد بن باديس يظن أن فلذة كبده الوحيد يضيع بين يديه في حادثة غريبة، جعلت العديد من معارفه وأصدقائه يطرحون العديد من الأسئلة، حيث فارق الوريث الوحيد للشيخ ابن باديس، الحياة في سن مبكرة إذ كان لايزال طفلا صغيرا، في حادثة وقعت، حسب شهود عيان، بمزرعة العائلة بمنطقة جبل الوحش، بطلق ناري، صدر من بندقية صيد. وكانت تشير الروايات وقتها، إلى أن الطفل الصغير كان في فترة راحة عند أعمامه بالمزرعة العائلية، وفي غفلة من كبار السن والبالغين حوله، قام بحمل بندقية الصيد، وخرج بها إلى الحقل، محاولا تقليد الكبار في الصيد، وبينما كان يحاول السيطرة على البندقية خرجت النار التي أصابته إصابة قاتلة، وفقا لعدد من الروايات في ظل شكوك حول وجود علاقة بين وفاة ابن الشيخ والمستعمِر، الذي كان يحاول بكل الوسائل، الضغط على الإمام ابن باديس؛ في خطوة للنيل منه، وكسر عزيمته. كما اتهم عدد من أتباع الشيخ عبد الحميد بن باديس، فرنسا استعمارية بتصفيته بعدما ساندوا فرضية تسميمه، خاصة أنه عندما اقتربت ساعته، بات لا يقوى على الوقوف تماما، وكانت ساعاته الأخيرة بين الغيبوبة والاستفاقة؛ إذ ردّ بعض أفراد عائلته هذا الأمر، إلى التعب الكبير، والإرهاق؛ إذ كان يلقي 15 درسا في اليوم الواحد، يضاف إليها سوء التغذية، خاصة أن الشيخ، حسب شهادات المحيطين به، فقد الكثير من الوزن بسبب عدم الأكل. ورغم مرضه كان يرفض الأكل الذي كان يرسَل إليه، وهو حسب أصحاب هذا الرأي ما قاد رائد الإصلاح إلى حتفه. كما يبقى السؤال مطروحا حول رفض الشيخ ابن باديس زيارة الطبيب ابن خالته، رفضا تاما، خلال مرض موته؛ بسبب اقتراب هذا الطبيب من السلطات الفرنسية. رحيل آخر إخوته عبد الحق وإهداء مكتبته لجامع الجزائر الأعظم سقطت آخر ورقة من أسرة الشيخ عبد الحميد بن باديس خلال السنة الفارطة، عندما انتقل شقيقه الأصغر عبد الحق بن باديس وآخر أخوته، إلى جوار ربه، عن عمر ناهز 102 سنة، بعد مسيرة حافلة من العطاء في التعريف بنضالات رئيس جمعية العلماء المسلمين عبر الملتقيات الرسمية، والأيام الدراسية، وعشرات الشهادات عبر مختلف وسائل الإعلام، حيث شُيعت جنازة الفقيد من مقر سكناه، نحو مقبرة عائلة ابن باديس الواقعة أسفل المقبرة المركزية بوسط المدينة، وسط عدد من أفراد العائلة والأقارب والمعارف. وبعد وفاة الشقيق الأخير للشيخ عبد الحميد بن باديس قررت عائلته ممثلة في البنت الكبرى للمرحوم عبد الحق، السيدة فوزية بن باديس، منح مكتبة العلاّمة التي كانت بحوزة والدها، كهِبة، لمسجد الجزائر الأعظم، حيث تكون بين أيدي طلبة العلم، كعمل صالح يمكن أن يكون أجره لصاحبه. وقامت بمقر مؤسسة عبد الحميد بن باديس، بتسليم الهبة لعميد مسجد الجزائر، فضيلة الشيخ المأمون القاسمي الحسني. وهي المكتبة التي كانت تضم 808 عنوان، لتكون كتبا وقفية على جامع الجزائر؛ تنفيذا لوصية المرحوم عبد الحق بن باديس الشقيق الأصغر للعلاّمة، بالنسخة الورقية والرقيمة. ضمت كتبا نفيسة، تم حفظها لأكثر من 80 سنة. وحملت علوما درسها الشيخ، وكان يحرص عليها تحصيلا وعطاء، حيث وصف الدكتور عبد العزيز فيلالي رئيس مؤسسة الشيخ عبد الحميد بن باديس، هذه المكتبة، بالثرية بالكنوز العلمية، وبأمهات الكتب في مختلف المجالات، والتي اقتناها الشيخ في شبابه خلال زياراته العديدة لتونس، والقاهرة، والإسكندرية، وبلاد الحجاز، وكذا الكتب التي كانت تأتيه عن طريق الأصدقاء أو البريد من المغرب العربي والمشرق العربي، وحتى من أمريكا الجنوبية، وأمريكا الشمالية.