لم يكن هدم مسجد "ليفنو" في جنوب غرب البوسنة على يد الجرافات الكرواتيَّة تحت حراسة الشرطة هو الحالة الوحيدة التي حدثت في البوسنة هذا العام، وإن كان من أحدث الجرائم التي ارتُكبت ضد المساجد في البوسنة، لاسيما وأن ذلك تَمَّ في شهر رمضان المبارك، على مرأى ومسمع من القوَّات والسلطات الدوليَّة في البوسنة. ولعل مما يزيد الموقف تأزمًا أنه في الوقت الذي تقع فيه هذه الاعتداءات لا تخلو الكنائسُ من حراسة نظاميَّة على مدار الأربع والعشرين ساعة، حتى الإعلام الغربي الذي ينقل عنه البعض، ومنه -للأسف- إعلام محسوب على العالم الإسلاميّ، فيصور الوضع كما لو أن القضية تتعلق بمئذنة، وضلّل بذلك الرأي العام، بل زوَّر رسالة رئيس العلماء في البوسنة الدكتور مصطفى تسيريتش إلى المبعوث الدولي فلانتينو إنزكو، من رسالة تتحدث عن جريمة تجريف المسجد، وضرورة تمكين المسلمين من إقامة مسجد للعبادة إلى رسالة "تأهيل مكان عبادتهم غير المجهَّز بمئذنة"! صدمة ليفنو لقد أحدثتْ عمليَّة هدم مسجد ليفنو في 18 أوت 2010 م بحجة عدم حصول المسلمين على ترخيص صدمةً لدى الرأي العام المسلم في البوسنة، وفي الخارج حيث أدان مجلس الأئمة البوسنيين في المهجر بشدة جريمة الاعتداء على المسجد، واعتبروا الجريمة من الجرائم السياسيَّة، التي تتغذَّى على الكراهية الدينيَّة والعرقية، حيث أقدم رئيس البلدية الكرواتي خرفوسلاف بيركوفيتش على قرار هدم المسجد بعد توقيع 1500 كرواتي من بين 3500 كرواتي من سكان المنطقة على عريضة ضد بناء المسجد. وأشار الأئمَّة في بيانهم إلى أن "العشرات من المساجد تَمَّ هدمُها في مناطق الكروات أثناء الحرب، والعشرات منها تعرَّض للاعتداءات وحتى الهدم كما هو مسجد ليفنو بعد الحرب" وأكَّدوا تمسُّكَهم بحق المسلمين في الحصول على تراخيص لبناء المساجد وغيرها من المرافق المدنيَّة والدينيَّة والثقافيَّة التي يحتاجونها في جميع أنحاء البوسنة والهرسك، بغض النظر عن الأغلبيَّة السائدة في تلك المناطق، وأعلن الأئمة تأييدهم للمجلس الإسلامي في ليفنو، ولاسيما الإمام الأكبر في المنطقة الشيخ جواد حاجيتش، ووصفوه بالشجاع، وكان الإمام جواد خوجيتش قد أكَّد على تقدُّمه بطلب الحصول على ترخيص لبناء مسجد وليس جامعًا، ولكن الردّ تأخر كما لو أنه لم يقدم، وتابع: "لا يوجد سببٌ للتأخير وإسراع عجيب في قرار الهدْم، لاسيَّما وأن المجلس الإسلامي كان يعملُ على جعل البناء مسجدًا". لقد حاولَ المسلمون وهم أقليَّة مستضعفة في ليفنو الدفاع عن المسجد بأياديهم، وتجمَّعوا للحيلولة دون تجريف المسجد، ولكن رئيس البلدية استدعى قوات الأمن التي تمكَّنت من إبعاد المسلمين ليجرف المسجد وهم يذرفون الدموع. وقد حاول الكروات تبرير الجريمة بالقول بأن المكان لم يكن مسجدًا، كما لو أنه ليس من حق المسلمين أن تكون لهم مساجد جديدة، وليس لهم الحق إلا في ما بُني قبل قرنَيْن من الزمن، وفي أماكن بعيدة عنهم. رسالة رئيس العلماء رئيس العلماء في منطقة غرب البلقان الدكتور مصطفى تسيريتش، كان في مقدِّمة الذين ثاروا ضد العدوان على مسجد ليفنو، ولكن بإتباع الأساليب القانونيَّة، ودون السقوط في دوامة العنف الذي طالما حذّر منه، وكان من جملة ما قام به إرسال رسالة احتجاج إلى المبعوث الدولي إلى البوسنة فلانتينو إنزكو، وطالبه بممارسة صلاحياتِه، ليتمكن المسلمون في منطقة ستوربا بإقليم ليفنو من ممارسة شعائرهم في مكان للعبادة. فيما أوضح الدكتور مصطفى تسيريتش في رسالته كيف "أقدمت السلطات المحلية في ليفنو على هدم المسجد الذي كان المسلمون ينوون أداء صلاة التراويح فيه خلال شهر رمضان، وقد تَمَّ الاعتداءُ بدعم قوي من قوات الأمن" ووصف في رسالته حالة المسلمين نساءً ورجالًا ممن تَمَّ هدم المسجد على مرأى منهم دون أن يتمكَّنوا من الدفاع عنه. وقال: "إنها صورة مزلزلة، رؤية النساء وهن يشاهدن عملية هدم المسجد الذي بُني على أرض وقف إسلامي، في حالة يُرثى لها، بلا حول ولا قوة" وتابع: "من حق المسلمين أن يكون لهم بيتٌ للعبادة في إطار المساواة بين الجميع، وهو ما تكفُلُه المواثيق المحليَّة والدوليَّة، ومبادئ حقوق الإنسان" وأشار الدكتور مصطفى تسيريتش إلى الكنيسة الصربيَّة التي بُنيت على أرض تملكُها مسلمة، هي فاطمة أورليتش" ومع ذلك لم يتم هدمُ الكنيسة حتى اليوم. وشدَّد على أن "قرار البلديَّة لم يتمّ على أُسسٍ قانونيَّة، وإنما استجابة لروح الكراهية التي عبّر عنها توقيعُ 1500 كرواتي ضد المسجد" ووصف العدوان على المسجد بأنه "إرهاب نفسي ومادي ضد المسلمين في ليفنو" وطالب رئيس العلماء، المبعوث الدولي التحلي بروح المسئوليَّة وحلّ المعضلة في ليفنو، من خلال أداء زيارة للمكان، ودفْع السلطات للاستجابة للاحتياجات الروحيَّة للمسلمين في المنطقة، مذكرًا بما عاناه المسلمون في معسكرات الاعتقال الصربيَّة والكرواتيَّة إبان العدوان بين 1992 و1995م، وخلص الدكتور تسيريتش في نهاية رسالته إلى المبعوث الدولي إلى أن "التسامح علامة قوَّة، واللاتسامح علامة ضعف وجبن". اعتداءات متكرِّرة لقد شهدت عدة مناطق في البوسنة، في الشهور الست الأولى من هذا العام عدَّة اعتداءاتٍ، من بينها كتابة عبارات مسيئة على مسجد في دوبوي (وسط البوسنة)، وتهديد بتكرار جريمة سريبرينتسا، وذلك بمناسبة مرور 17 سنة على مقتل 30 مسلمًا مدنيًّا في دوبوي. وفي 12 أوت2010م تَمَّ الاعتداءُ على مسجد في دوني فاكوف، بالشمال الغربي، وقد تَمَّ اعتقال كرواتيَّيْن اعترفا بالجريمة، وفي 8 جويلية الماضي قام صربي بالصعود إلى منارة مسجد رييكا في، زفورنيك بشرق البوسنة، وشرْب الخمر في أعلى المنارة، ورفع العلم الصربي، وقامت الشرطة باعتقاله. وفي 25 فبراير الماضي تعرَّض مسجد "عتيق علي باشا" في مدينة، فوتشا، (90 كيلو متر شرق سراييفو) إلى اعتداءٍ جديد من قبل الأرسوذكس الصرب، حيث قاموا بكسر زجاج نوافذ المسجد، وألحقوا أضراراً بواجهته، وقال شهود عيان أن مجموعة من الصرب رشقوا المسجد بالحجارة ثم فرُّوا من عين المكان، وقد استدعى المجلس الإسلامي في فوتشا الشرطةَ التي تتكوَّن معظمُها من الصرب، ولم تزدْ عن تسجيل الحادث باسم "مجهول" وكانت فوتشا قد احتلَّها الصربُ سنة 1992م وقاموا فيها بأبشع أنواع الإجرام، كالإبادة والتهجير والاغتصاب، كما هدموا جميع المساجد في المنطقة ومنها جامع عتيق علي باشا، ومسجد مسلوشكا، الذي أُعيد بناؤه في 2007م، ومسجد ألاجا الذي يعدّ من أوائل المساجد التي بُنيت في البوسنة في القرن الخامس عشر، وقد تمكَّنت المشيخة الإسلاميَّة من إعادة بناء مسجد عتيق، وموسلوشكا، ولا يزال مسجد آلاجا في انتظار المتبرِّعين. تجدرُ الإشارة إلى أن الاعتداءات على المساجد استمرَّت في البوسنة بعد انتهاء الحرب، سواء في مناطق الكثافة السكانيَّة للصرب أو الكروات، وكانت العشراتُ من المساجد ضحيَّة الاعتداءات الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة في البوسنة وكذلك صربيا، حيث لا يزال مسجد البيرق، في بلغراد، ومسجد نوفي صاد، يحملان آثار العدوان حتى اليوم. وقد أخلفت الحكومة الصربية في بلغراد بوعودها، ولم تقمْ بترميم المسجدين كما وعدت رغم مرور عدة سنوات على إضرام النار فيهما من قِبل متعصِّبين أرثوذوكس. إن جريمة الاعتداءات التي تتعرَّض لها المساجد في البوسنة تأتي في نفس السياق الذي تتعرَّض فيه المساجد ومقابر المسلمين في فلسطينالمحتلة، ورفض بناء مسجد نيويورك وغيره، للهدْم والتجريف والمنْع.