بقلم: ياسر الزعاترة لم يبذل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري جهدا في أي ملف من الملفات الخاصة بمصالح بلاده منذ تسلم منصبه كما فعل فيما خصّ ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، فقد حضر إلى المنطقة في ست جولات (الجولة تمتد أياما وتشمل عدة دول، وتختلف عن الزيارة) انتهت آخرها بإعلان استئناف المفاوضات. من العبث القول إن جولات كيري كانت مبادرة أمريكية خاصة، فالولايات المتحدة لا تتحرك أصلا في الملف الشرق أوسطي إلا بناء على مطالب الكيان الصهيوني، وهي عموما لم تعد معنية بالمنطقة كما كانت من قبل في ظل أولوية المواجهة مع الصعود الصيني. للتذكير فقط، فلم يكن شرط وقف الاستيطان الذي تسبب في استمرار توقف المفاوضات واحدا من شروط السلطة التي فاوضت أولمرت ثلاث سنوات، بينما كانت حكومته الأكثر تصميما على تصعيد الاستيطان بين كل الحكومات السابقة. لكن أوباما هو الذي صعد محمود عباس إلى أعلى الشجرة عندما طرح على نتنياهو وقف الاستيطان من أجل تهيئة الأجواء لاستئناف التفاوض، فما كان من نتنياهو إلا أن رفض ذلك، وأصرَّ على رفضه، وها هو عباس وأوباما يخضعان لشروطه. طوال سنوات أصرَّ عباس على رفض استئناف المفاوضات دون تجميد الاستيطان، لكنه يعود اليوم دون وقفه، مع العلم أننا نتحدث عن تجميد الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967 التي يُفترض أن تكون أراضي الدولة الفلسطينية. وحين استبدلت السلطة شرط وقف الاستيطان بشرط آخر هو اعتراف الإسرائيليين بمرجعية حدود 1967 كأساس للتفاوض، تم رفض ذلك أيضا، ولم يبق من القصة كلها سوى الإفراج عن 104 من قدامى الأسرى الذين اعتقلوا قبل اتفاق أوسلو عام 1993، وهم جميعا كبار في السن، ولم يعودوا يشكلون خطرا على الأمن الإسرائيلي. ولا داعي للتأكيد هنا على فرحتنا بالإفراج عن أي أسير، لكن ذلك لا ينبغي أن يتم من خلال التفريط بالقضية التي دفعوا أعمارهم من أجلها، فضلا عن الشهداء، ومعاناة الشعب بأكمله. هكذا يستمر الاستيطان (في الأراضي المحتلة عام 1967)، ولا يُعترف بحدود 67 كمرجعية للتفاوض، ثم يُراد للناس أن يقتنعوا بأن عباس متمسك بالثوابت الفلسطينية التي يجري ترديدها دوما، وهي دولة في حدود 67 كاملة السيادة بما فيها القدس الشرقية، مع (تبادل طفيف للأراضي بنفس المساحة والأهمية)! ويُراد لنا أن نقتنع أيضا بأن نتنياهو من التفاهة والسخف، بحيث يعزز الاستيطان في مناطق سيتنازل عنها بعد 6 إلى 9 أشهر، وهي المدة التي قال كيري إن المفاوضات ستصل إلى نتيجة خلالها، بحسب ما تسرَّب من أخبار اللقاءات بينه وبين محمود عباس في السفارة الأمريكية في عمان. وحين نطلع على وعود كيري لعباس في اللقاء المشار إليه، بحسب ما نقل هو لأعضاء اللجنة التنفيذية، فإن الأمر يغدو مثيرا للسخرية إلى حد كبير، فالوزير الأمريكي لم يكن بخيلا تماما في تقديم الوعود والضمانات، وهي ذات السيرة الأمريكية التقليدية في التعامل مع الملف الفلسطيني، كأن بوسع أي زعيم أمريكي أن يفرض اليوم على نتنياهو ما لا يريد، فيما هو يعلم أن للأخير تأييد في الكونغرس أكثر من التأييد الذي يحظى به أي رئيس، جمهوريا كان أم ديمقراطيا. قلنا ليس بخيلا من باب المجاز، ولأننا نعرف حقيقة الموقف الإسرائيلي، لكن الأمر ليس كذلك لو أخذنا في الاعتبار ما يوجعون به رؤوسنا حول الثوابت (78 في المئة من الفلسطينيين خارج السياق تماما). فقد تحدث كيري عن جملة من الوعود والضمانات من أجل إغراء عباس بالعودة إلى التفاوض، وأقله من أجل منحه فرصة القول لقادة فتح ومنظمة التحرير إنه حصل على وعود خلاصتها (دولة متواصلة في حدود 67 مع تبادل للأراضي، عاصمة في القدس الشرقية (ليس كلها طبعا) مع بقاء القدس موحدة (كيف؟!)، حل مشرف لقضية اللاجئين (لا يعرِّض يهودية إسرائيل للخطر). وهو ما يؤدي في النتيجة إلى نهاية الاحتلال، وبالتالي نهاية الصراع، مع ضمان الأمن الإسرائيلي. فوق ذلك عرض كيري على عباس رزمة اقتصادية كتلك التي عرضها في مؤتمر دافوس البحر الميت، مع فارق أنه لم يربطها هنا بالسلام الاقتصادي (مشروع نتنياهو) كما فعل في البحر الميت، بل تحدث عن مضاعفة الدخل القومي في الضفة، وتخفيض البطالة من 23% إلى 8% خلال ثلاث سنوات، موضحا أن لديه على هذا الصعيد التزامات مهمة من السعودية والإمارات. وفي حين لم يقتنع أكثر قادة فتح واللجنة التنفيذية بعرض كيري وضماناته، فقد تم تجاوز الأمر، لاسيما أن أحدا لا يمكنه مخالفة القائد الأوحد للمنظمة وفتح والسلطة، ولن يلبث الجميع أن يدافعوا عن القرار كما لو أنه الفتح العظيم. ولا شك أن المرجعية العربية التي جلبت بالأوامر سريعا إلى عمان قد ساهمت في تعزيز موقف عباس. لا خلاف ابتداء على ما ذكرنا آنفا من أن بوسع كيري أن يقول لمحمود عباس ما يشاء، لكن قدرته على فرض شيء على نتنياهو هي شبه معدومة، وإذا كان أوباما قد عجز عن إقناعه بتجميد (مجرد تجميد) الاستيطان من أجل استئناف التفاوض، فهل سيقنعه بتنازلات في القدس الشرقية؟! من الضروري هنا التذكير بوثائق التفاوض التي كشفتها الجزيرة، والتي فضحت مستوى التنازلات التي يمكن أن تقبل بها السلطة، فيما كشفت من جانب آخر حجم التعنت الإسرائيلي، لاسيما في قضيتي اللاجئين والقدس. ففي الأولى قالت ليفني لصائب عريقات بأن رقم اللاجئين الذي سيعود إلى الأراضي المحتلة عام 1948 (قالت إسرائيل طبعا) هو (صفر). أما في موضوع القدس الشرقية، وحين قال لها صائب عريقات إنه يعرض عليها (أكبر أورشليم في التاريخ اليهودي)، ردت باستعلاء قائلة إن هذا الموضوع خارج سياق البحث. ويعلم الجميع أن ملف القدس هو الذي أفشل مفاوضات كامب ديفيد صيف العام 2000، وليس ملف اللاجئين. من الضروري التذكير هنا بأن أحد أهم أسباب الحرص الإسرائيلي الأمريكي على استئناف المفاوضات يتعلق بمخاوف اندلاع انتفاضة جديدة في الضفة الغربية، وقد قال كيري ذلك لعباس بكل صراحة في لقاء عمّان، وهي مخاوف لا يمكن التقليل من شأنها، إذ أن حدوث ذلك سيعني إهالة التراب على كل ما تحقق للإسرائيليين من أمن خلال أكثر من 7 سنوات، فضلا عن فرض تهديد جدي لهم من محيط ملتهب بعد الربيع العربي. ثمة احتمالان لهذه الرحلة الجديدة من المفاوضات، الأول أن لا تصل إلى نتيجة في المدى الزمني المحدد، بسبب ملف القدس على وجه التحديد، فضلا عن قضايا أخرى تتعلق بالحدود مثل موضوع أراضي الغور، وهي ثلث مساحة الضفة تقريبا، رغم أن الموافقة السابقة (التي أقرت عربيا مع الأسف) تقضي بقبول مبدأ تبادل الأراضي، والذي يعني بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية، وهي التي تفتت الكيان الفلسطيني، وتسرق أهم أحواض المياه فيه. لكن عدم التوصل إلى اتفاق نهائي، لن يؤدي إلى إعلان الفشل، بل سيدفع نحو استغلال المرحلة في إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في مناطق جديدة بحيث تتمدد السلطة نحو مناطق أخرى، وتتواصل حكاية المال والاستثمار، بحيث يتكرس وضع السلطة/ الدولة، ويجري استبدال نجاح التفاوض بالحديث عن محاولة جديدة للحصول على اعتراف بعضوية كاملة لدولة فلسطين في الأم المتحدة، فيما تمضي المسيرة من الناحية العملية نحو دولة مؤقتة في حدود الجدار تغدو في نزاع حدودي مع جارتها من دون أن يضطر عباس أو سواه إلى القول إنه تنازل عن الثوابت، ويستمر هذا الحال لسنوات قد تطول قبل تحول المؤقت إلى دائم مع تعديلات طفيفة. والخلاصة شطب القضية. ولا يستبعد في هذا السياق أن تتم ترتيبات أمنية وسياسية مع الأردن فيما يسمى الكونفدرالية. الاحتمال الآخر هو أن تتواصل المفاوضات بشكل سري، وتنتهي بقبول محمود عباس بأسوأ مما قبله في مفاوضاته مع أولمرت، في صفقة نهائية تحصل فيها السلطة على حصة من البلدات المحيطة بالقدس (ضمت إليها بعد 1967) كعنوان لعاصمتها، مع بقاء القدس التاريخية موحدة تحت سيادة الاحتلال، بما فيها المسجد الأقصى الذي سيخضع لترتيبات فيما يخص الزيارة وليس السيادة على المنطقة التي يوجد فيها، فيما يجري تأجير الغور لثلاثين سنة بحسب الصيغة القديمة التي طرحت في كامب ديفيد، وأضف إلى ذلك ترتيبات أمنية بروحية الملحق الأمني لوثيقة جنيف (الحل بروحية الوثيقة أيضا) . والنتيجة هي كيان مفتت الأوصال تربطه الجسور والأنفاق والطرق الالتفافية، من دون عودة لاجئين إلى مناطق 48، مع تعويض سيدفعه العرب، هذا إذا لم يطالب الصهاينة بتعويض أكبر عن أملاك اليهود في الدول العربية، مع وجود احتمال بأن يترافق ذلك مع ترتيبات أمنية وسياسية مع الأردن أيضا فيما يعرف بالكونفدرالية. في الأفق، يبدو الاحتمال الأول هو المرجح، لكن الاحتمال الثاني لا يمكن استبعاده، أما الاستفتاء على الحل فأمره سهل -بحسب محمود عباس- لأنه سيكون في الضفة لوحدها، ويمكن التلاعب به بسهولة، وتبقى قضية غزة التي سيكون لها شأن آخر بحسب تطورات الوضع في فلسطين وفي المنطقة بشكل عام. يبقى القول إن هذا هو ما يفكرون فيه، لكن الشعب الفلسطيني قد تكون له وجهة نظر أخرى، والأرجح أن تكون، فهو لن يقبل شطب قضيته بدولة مؤقتة، ولا بحل مشوّه، ولن يلبث أن ينتفض في وجه السلطة وشريكها في رحلة نضال جديدة ستكون مختلفة عن سابقاتها لجهة قدرتها على تحقيق إنجازات للشعب والقضية.