شاء الله عز وجل أن يمر الإنسان فوق سطح الأرض بعدد من المراحل الحياتية المختلفة وتتسم كل مرحلة بعدد من نقاط القوة، وعدد آخر من نقاط الضعف وفق للتدبير الإلهي المحكم. تبدأ حياة الإنسان جنينا في رحم أمه، ثم وليدا في المهد، ثم رضيعا ثم طفلا صغيرا كالصفحة البيضاء، ثم طفلا مدركا لما يدور حوله وتبدأ ملامح شخصيته في التحدد والوضوح، ثم يدخل في مرحلة الصبا والشباب، ثم يبلغ أشده ثم تبدأ مرحلة الشيخوخة التي نحن بصدد الحديث عنها. وحول ذلك يقول تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا). ويمكننا تقسيم الشيخوخة لمرحلتين أساسيتين: - المرحلة الأولى يستطيع فيها المسن أن يقوم بحاجاته الأساسية على الأقل ويحتفظ فيها بقدر معقول من وظائف التفكير والتذكر. - المرحلة الثانية هي ما يطلق عليه أرذل العمر أو الهرم، الذي علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ منه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل). فما هو الموقف الإسلامي من هاتين المرحلتين؟ عطاء النضج تتميز المرحلة الأولى من الشيخوخة بالضعف الجسدي التدريجي فتقل مقاومة الجسد للأمراض، فتكثر الأمراض وتطول المدة التي يستطيع الجسد أن يتعافى فيها، وربما يكون جسد المسن مستوطنا لعدد من الأمراض المزمنة كالسكري والضغط وتصلب الشرايين مثلا، ويرى كثير من العلماء أن هذه الفترة تبدأ في الغالب من سن الخامسة والستين. وقد تحدث هذه التغيرات مبكرة أو متأخرة وفقا لعدد كبير من العوامل كالجينات الوراثية وظروف البيئة المحيطة ومدى اهتمام الإنسان بلياقته الصحية، ويجب أن ندرك أننا سوف نُحاسَب عن الشباب والصحة، وبالتالي فيجب أن نُحسِن لأنفسنا ونرعاها، وبقدر هذا الإحسان وبقدر مدى الالتزام بتعاليم ديننا الحنيف في تناول الطعام وأداء الصلوات بخشوع سوف تتأخر هذه الأعراض بمشيئة الله تعالى. ووفقا للرؤية الإسلامية فلا يعني أن الإنسان قد أصبح شيخا مسنا أن يتوقف عن العطاء ويطالب من حوله بخدمته ويركن إلى حالة من السكون المفضية به للهلاك لا محالة. بل العكس تماما هو الصحيح فيعقوب عليه السلام يدعو إلى الله وهو على فراش الموت، وزكريا عليه السلام جاءته البشرى وهو قائم يصلي في المحراب وقد بلغ من الكبر عتيا. ولو تأملنا موقف عمرو بن الجموح لوجدناه معبرا عن روح الإسلام الحقيقية؛ فعمرو هذا رجل شيخ وسيد من سادات المدينة له أربعة من الأبناء الشباب الجلدين يجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو يجاهد بماله فهو رجل كريم جواد ولكن الإسلام يبث في نفوس أتباعه روح الطموح للمعالي، فطمح عمرو أن يجاهد ببدنه أيضا رغم سنه ورغم مرضه، فلقد كان أعرج شديد العرج لذلك كان يرفض أبناؤه خروجه للجهاد، لكن النبي صلى الله عليه وسلم منحه الفرصة لما شعر بصدقه وتوقه للاستشهاد وهو ما كان. هذه هي روح الإسلام القوية التي لا بد أن يستشعرها المسن فتمنحه من قوة النفس ما يستطيع به أن يتجاوز ضعف البدن، فها هو عمر المختار يقود المقاومة في ليبيا ضد الاحتلال الإيطالي وهو في السبعين من عمره وما ضعف وما استكان. ولعل فرص المسن للجهاد في الحياة أعظم، فمرة أخرى يكون لديه الوقت الكافي بعد أن تخلص من أعباء وقيود العمل الوظيفي مع درجة عالية من النضج لا يتمتع بها الشباب الصغير، وها هي العديد من المؤسسات الخيرية بحاجة لجهده. أما أعظم فرص المسن على الإطلاق فهي هذه الفرصة العظيمة لزيادة أجره ومكانته عند الله وتجديد التوبة، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا). فالحياة هي أعظم الفرص على الإطلاق وهي نعمة لمن تأملها ولو تأمل المسن حال شاب وقع له حادث فمات فجأة لعلم أنه في خير كثير فليبدأ في استثماره. وقد نقلت الصحف قريبا خبرا عن سيدة سعودية أمية في الثمانين من عمرها أنها أتمت حفظ كتاب الله تعالى بعد أن بدأت في الحفظ وهي في السبعين من عمرها! لماذا لا ننقل هذا الخبر الرائع المبشر لكل مسن فهو إن لم يستطع حفظ كتاب الله كاملا حفظ قدر ما يستطيع فكل أمره خير. جزاء الإحسان يقول تعالى (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). يقول العلامة الشنقيطي (إن العلماء العالمين لا ينالهم هذا الخرف وضياع العلم والعقل من شدة الكبر لأن المؤمن مهما طال عمره فهو في طاعة وفي ذكر الله فهو كامل العقل وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته لا يُصاب بالخرف ولا بالهذيان). ونقل عن محمد بن كعب القرظي قوله (من قرأ القرآن متع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة). ولعل هذا يوافق أحدث ما توصل له العلم من أن مرض الزهايمر لا يصيب من يعمل عقله بأقصى طاقته في التفكير والتأمل، وهو ما يقوم به العلماء العاملين المتأملين لكتاب الله تعالى ولكل نصيبه في ذلك، فلقد رأيت بعيني امرأة مسنة تقترب من التسعين وقد تاهت عن الوجود ونسيت أقرب الأقربين لها ولكنها تتذكر السور التي تحفظها عندما يبدأ أحد قراءتها بجوارها، وظلت تردد الشهادتين وتكتبها بإصبعها على الهواء حتى توفاها الله وهي على هذه الحالة؛ فالله سبحانه وتعالى يحفظ عباده شيوخا هرمين عندما يحفظوه شبابا وكهولا عاقلين ناضجين وهذا هو جزاء الإحسان. ولكن في غالب الأحوال يحتاج المسن الهرم لمن يسانده ويساعده كي يعيش حياة كريمة، وهذه مسؤولية وأمانة واجبة وهي من صميم القيم الخلقية التي يقوم عليها المجتمع المسلم، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم). ولا بد أن يدرك الشاب أن هذه الحياة فيها تغيرات كثيرة، وأنه لن يبقى شابا للأبد وأن الجزاء من جنس العمل فيشمر ويجتهد للقيام بما ألقي عليه من مسؤولية هي ابتلاء من الله عز وجل؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أكرم شاب شيخا من أجل سنه، إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه). ولتعلم أخي الشاب أن العدل والإحسان هما ميزان الحياة الذي ينبغي أن يستبطنه قلب المسلم فيسعد ويسعد من حوله، وأختم هذا المقال بهذه القصة التي كنت شاهدة عيان عليها، وفيها من العبر الشيء الكثير. وتقول القصة(إن شخصا تمت إحالته على التقاعد وكان يتمتع بصحة ولياقة جيدة، فقرر أن يتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته، خاصة أن أمه الهرمة تعيش معه وبحاجة إلى عناية.. تزوج امرأة أربعينية لم يسبق لها الزواج من قبل ولكن الله لم يرزقها منه بأبناء، وكانت دائما تخشى من المستقبل مع زوج مُسن وبلا أبناء يساندونها، ولكنها كانت ترعى أمه المسنة قدر ما تستطيع وتقيم علاقة حسنة معها، مرت السنوات وتوفيت الأم المسنة وتصاعدت حدة الشكوى من الزوجة وتزايدت مخاوفها الصحية والمالية إلى أن مر عشرون عاما على هذا الزواج، فأصبح الزوج في الثمانين والزوجة في الستين من العمر وليس بينهما كثير وفاق، حتى حدث خلاف المتوقع فسقطت الزوجة طريحة الفراش بعد مرض عضال ألمّ بها فما كان من الزوج العجوز إلا أن تذكر ما قامت به زوجته قديما من خدمة أمه ورعايتها؛ فقام هو بنفسه عليها يطعمها وينظفها ويغير لها ملابسها كما الطفل الصغير الذي لا حول له ولا قوة، ولم يتردد أن ينفق عليها مدخراته بصورة أدهشتها فلم تكن تأمل أن يقوم بكل هذا لأجلها لكنه كان دائما يردد (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان). المدهش في الأمر حقا أن الرجل الثمانيني استعاد لياقته وحيويته كأنه قد عاد عشر سنوات من العمر إلى الوراء، وعندما أتأمله أتساءل وهل هذا هو أيضا جزاء الإحسان؟! وأيهما كان أفضل بالنسبة إليه أن يكون هو طريح الفراش وزوجته تخدمه؟ أم الجهد الشديد الذي يبذله الآن ويدعه ينام بعمق كما الأطفال؟! موقع المختار الإسلامي