بقلم: مالك التريكي تثابر زميلتنا الفاضلة ديمة الخطيب، التي هي من أشهر المغردات العربيات على شبكة تويتر، على تقديم دروس (تويترية) في قواعد العربية، وتكافح وحيدة بتصميم دونكيشوتي ضد آفة التلوث اللغوي التي تختص بها أمة العرب (ميل كثير منهم إلى استعمال هجين من القول لا هو بالإنكليزي ولا العربي، بل وافتخار بعضهم بأن أبناءهم لا يعرفون لغة الضاد). وديمة هي (بنت أبيها) الناقد الأدبي المرموق د. حسام الخطيب. تتقن من اللغات الأوروبية ستا أو سبعا. ولكن العربية هي حبها الأول. وقد غردت أخيراً: (لا تنتظر اليوم العالمي للغة العربية كي تتذكر لغتك. اجعل كل يوم يوماً عربياً، تماما كما لا تنتظر عيد الحب كي تحب) غرد بالعربي. وهي محقة في هذا. فقضايا الانتماء الثقافي، التي تقع قضية التمكّن (أو الاقتدار) اللغوي منها في القلب، لا تعالج بالمناسباتية والشعاراتية مرة كل عام. على أن فائدة المناسبات، وهذا أضعف الإيمان (بل أقل)، أنها تضمن بعض الاهتمام. وقد حالت الظروف دون مشاركتي في الأنشطة التي نظمتها اليونسكو في باريس قبل فترة إحياء ليوم اللغة العربية العالمي. وكان الموضوع المقترح هو دور الإعلام التلفزيوني في نشر العربية. والرأي عندي أن الإعلام، على علاته، هو الدليل شبه الوحيد، بالنسبة للجمهور الواسع غير القارئ أو غير المتعلم، على أن العربية لا تزال لغة حية. وإلا فأين يسمع الجمهور العربية لولا نشرات الأخبار وأين يراها لولا صفحات الجرائد؟ أما خطباء المساجد، فقد صار كثير منهم مختصا في اللحن والخطأ، على نحو يظل فيه اللبيب حيران: إذ كيف لمن أتيح له حفظ نصيب من القرآن (النص التأسيسي الأول في حضارتنا) أن يرتكب هذه الأخطاء-الخطايا الفاضحات! فيا ليت هؤلاء يعودون على الأقل إلى تسجيلات الشيخ عبد الحميد كشك ليسمعوا ويعوا، ويتعلموا البيان كيف يكون. صحيح أن الإعلام أفقر العربية إفقارا بركونه إلى أصغر قاسم لغوي مشترك، فساهم في تعميم السطحية المانعة للقدرة على اكتساب ملكة اللغة الفصيحة (أي السليمة) التي يجعلها العلامة ناصر الدين الأسد في مرتبة أدنى من الفصحى. ولكن المشكلة لا تبدأ بالإعلام، بل تنتهي به. ذلك أن ملكة التمكّن اللغوي، أي ملكة التعبير السليم بأرقى ما تختزنه اللغة الأم من إمكانات، لا يمكن أن تكتسب فرديا وتتنشر قومياً إلا إذا توفرت التربية القويمة في البيت والمدرسة. إذ إن السبب الأول لانتشار الرداءة والركاكة هو أننا قد نكون الأمة الوحيدة التي تخرج مدارسها وجامعاتها متعلمين قليلا ما يتجاوزون الدرجة الصفر على سلّم التمكن اللغوي: مثلهم كمثل من أهدي له جوال من أحدث طراز، ولكن المحظوظ لا يستخدمه إلا لاستقبال المكالمات! فقد أصبحت الدول العربية منذ حوالي أربعة عقود تفرخ أصحاب شهادات لا دراية لهم بأصول البيان. لماذا؟ لأنهم مصابون بسوء التغذية الثقافية أصلا. ذلك أنهم لم يرضعوا لبن اللغة الأم من ثدي نصوصها التأسيسية. أطباء ومهندسون ومحامون وصحافيون لم ينشأوا على نصوص الجاحظ والتوحيدي وابن المقفع والمتنبي والمعري، ولا شوقي وأرسلان وطه حسين والعقاد. أما في بريطانيا أو فرنسا مثلا، فما أنت بواجد متعلما حقيقيا إلا وهو عارف بشكسبير وديكنز، أو بموليير وهيغو. ذلك أنه لا لغة بلا ثقافة. ولا بناء بلا أساس.