اندثر سياق الموضوع من ذاكرتي فقد كنت صغيرا، ولكنني ما زلت أذكر أمّي وهي تحدّث إحدى جاراتها أو صديقاتها.. لقد روت لها، ولا أدري كيف بلغتها تلك الرواية، أن امرأة من عالم الجنّ كانت حزينة على ابنتها التي أدركها الموت.. كانت تبكي وتنوح وتعبّر عن حسرتها، فقد ماتت الابنة شابّة ولم تتمتع بحياتها.. ماتت صغيرة حيث لم تتجاوز الخمسمائة عام. حكاية الأمّ وابنتها الشابّة بمقاييس الجنّ هي إحدى الأساطير الشعبية وغرائب وعجائب العالم الآخر التي تحتفظ بها ذاكرة جيلنا، حين كان الغالب على الأسرة هو الاجتماع والحديث والسمر، فأجهزة التلفزيون كانت نادرة في القرى والأرياف، ولم تصل بعد إلى ما نحن عليه اليوم حين صادرت منّا تلك الجلسات الحميميّة الدافئة خاصة في ليالي الشتاء الباردة. قصّة الأمّ الجنيّة وابنتها تقودنا إلى الحديث عن الأعمار بين عالمي الجنّ والإنس، وذلك التفاوت في الأعمار يعيدنا إلى الماضي البعيد جدا حيث كانت الأعمار طويلة إلى درجة لا تُقارن بأعمارنا في هذه الأزمان.. لقد حدثّنا القرآن الكريم عن النبيّ نوح عليه السلام، ومع أنّه لم يذكر عمره بالتحديد؛ فقد أخبرنا أن مدّة دعوة نوح لقومه بلغت ألف سنة إلا خمسين عاما.. إنّها قرون طويلة، وهي فترة الدعوة فقط، فكم عاش قبل الدعوة وبعد الطوفان حين رست به السفينة على الجوديّ.. الله أعلم.. أعمار الناس في الأزمان الغابرة كانت طويلة إذن، أمّا في هذه الحقبة التي نعيشها فالأمر مختلف تماما؛ فالأعمار بين الستّين والسبعين في الغالب، أو هذا ما نفهمه من الحديث النبوي الشريف، حين أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أعمار أمّته في هذه الحدود. سرحتُ مع عالم الأعمار وما سلف من الناس على كوكب الأرض، وأنا أقرأ خبرا عن الرئيس الكوبي راؤول كاسترو وإعادة انتخابه على رأس مجلس الدولة، الهيئة العليا في السلطة التنفيذية الكوبية. راؤول الذي ورث السلطة عن أخيه فيدل كاسترو قبل خمس سنوات، سيرأس الهيئة العليا في السلطة التنفيذية الكوبية لولاية ثانية، والخبر عاديّ إلى حدّ الآن، لكنّه يتطور إلى غير عاديّ عندما يُذيّل بإعلان الرجل عن نيّته ترك السلطة بعد انتهاء هذه العهدة الرئاسية عام ,2018 والسبب هو رغبته في إفساح المجال للأجيال الجديدة. مفاجأة من العيار الثقيل إذن.. ربّما اعتقد كاسترو الأخ أنه فجّرها على الملأ، خاصة أن تجربة أخيه لا تبشّر بشيء على شاكلة التنازل أو التسليم؛ فقد حكم فيديل كوبا من عام 1959 إلى غاية ,2008 ولم يتنازل عن منصبه إلا بعد أن أقعده المرض وحدّ من قدراته على الحركة والحديث والتواصل. وعلى أيّ حال ومهما كان المشهد في هرم السلطة بكوبا، فإن مقارنة عابرة بين تركيبة الحكم الآن، وما كانت عليه قبل خمس سنوات عندما جلس راؤول كاسترو على كرسي الحكم؛ تشير إلى بعض التغيير الإيجابي، وأقصد تحديدا متوسط الأعمار ودخول عناصر تعتبر شابّة إلى حدّ كبير قياسا بالقيادات المتقدمة في السنّ. التشكيلة الجديدة التي سترافق راؤول في عهدته الثانية تتكون من ميغيل دياز كانيل كنائب أول لرئيس مجلس الدولة ويبلغ من العمر اثنين وخمسين عاما، ومن بين النواب الخمسة أيضا مرسيدس لوبيز اسيا وهي إمرأة وصلت إلى سنّ الثماني والأربعين سنة، ومع أنّ الرجل الثاني في النظام سابقا خوسيه رامون ماتشادو فينتورا البالغ من العمر اثنين وثمانين عاما تنازل عن مكانه كنائب أول للرئيس، لكنه ظل من بين النواب الخمسة، وحافظ نائبان آخران على موقعيهما، وهما الزعيم التاريخي راميرو فالديز ويبلغ من العمر ثمانين عاما، و غلاديس بيخيرانو وعمره الآن ستة وستون عاما. مشهد كوبي جديد يسيطر عليه المعمّرون مرّة أخرى، وإن كان الحال أفضل بعض الشيء من ناحية النواب، فالسيد راؤول كاسترو قد تجاوز الثمانين بعام في بداية هذه العهدة، ومعه في النيابة من هو في حدود الثمانية وأربعين والاثنين وخمسين سنة، وهو تقدم يُحسب للقائمين على الحكم في كوبا إذا عدنا إلى بداية عهدة راؤول الماضية عندما كان عمر الرجل ستة وسبعين عاما وأكبر نوابه في الثمانين وأصغرهم في الثالثة والستين. كتبتُ قبل خمس سنوات، وفي هذه الزاوية، مقالا حمل عنوان كوبا وظاهرة الانقراض وقلت في آخره :خمسة نواب للرئيس الجديد... أصغرهم يبلغ من العمر ثلاثة وستين عاما، ولا ندري هل تختلف مفاهيم الشباب والشيخوخة بيننا وبين الكوبيين؟ وهل يوجد في كوبا اليوم رجال وسياسيون في الثلاثينيات والأربعينيات من أعمارهم؟ أم أن هؤلاء النواب الخمسة هم أصغر الأحياء سنّا في جزيرة كوبا؟ وهل يعني هذا أن ظاهرة الانقراض قد بدأت زحفها على الشعب الكوبي... الله أعلم.. لكن... لله في خلقه شؤون. واليوم وبعد أن صار راؤول كاسترو يرنو ببصره نحو التسعين، أعود لأتساءل من جديد عن نظرة أمثال هؤلاء الحكّام، ومنهم بعض حكام الدول العربية، إلى موضوع الأعمار والأجيال والتداول وتسليم السلطة والخلود إلى الراحة والشيخوخة الهادئة، وإن كانوا يعتقدون، دون أن ندري عن ذلك شيئا، أن أعمار الناس في هذا الزمان هي نفسها كما كانت خلال الحقب البعيدة الغارقة في الزمن الغابر حين كانت الأعمار تصل إلى مئات السنين، وربما الآلاف.. لا أدري ربما يفكر بعض حكامنا ومن حولهم على طريقة الجنّ وأعمارهم التي تجسّدها قصة تلك الجنيّة الشابة وبكاء أمها عليها لأنها ماتت في ربيع العمر، فهي لم تتجاوز الخمسمائة سنة فقط.