أنتبهُ أنني أسمِّي الأشياء بأسماءٍ تجعلُ ذراعي تلتفُّ حولَ رأسيَ كي تُخبِرَ الناس: ها أذني! أستغلُّ تلكَ المسافة لأكتُبَ أحيانًا نصوصًا طويلة يضيعُ في شوارعها وممرَّاتها الضيِّقة أصدقائي أساعدهم على تحمُّل الرِّحلة بقليلٍ من النَّبيذ الجيِّد والعطورِ المستخلصة من أصولٍ بعيدة وسجائرَ ألفُّها بيدي وأحرصُ أن تكونَ أنيقة وحارقة وأن لا أشبِّهها بامرأة جميلة تمرُّ على اشتهاءٍ صباحي بالقرب من طاولةِ المقهى. كذلك تصلحُ المسافةُ لممارسةِ كلِّ الأفعالِ الشنيعة: أحبُّ، أرقصُ، أحِنُّ، أمْشي، أحلمُ، أشربُ، أكتبُ وأسمِّي الأشياء بأسماءٍ طويلة عادة ما أحشو بها ثقوب الذاكرة. لم أتعلَّمَ كجدِّي الأول الأسماء كلَّها إنَّما رميتُ عقبَ سيجارة في كأسِ المارتيني ولا أعرف ما الذي حدث بعدها.. الأرضُ مسافةٌ كبرى تتجرأ نافذتي الصغيرة على دفعها للانتحار. كأن أختارَ أمسيةً ممطرة أُقيمُ فيها عشاءً أخيرًا لهؤلاء: طفلٌ تركه أبواهُ دون أن يهوِّدانه أو يمسِّحانه أو يمجِّسانه أو يجعلانِه مسلمًا بالفطرة، مؤمنًا أو ملحدًا بالتساؤُل؟ تركاهُ بلا اسم قصيرٍ أو طويل أو حتى متوسِّط الحجمِ قليل النِّداء. بائعةُ هوى مالَ قلبُها المتعبَ الحزين لرجلٍ لم ينادِها يومًا بعاهرةِ المباني الخالية واختارا للطفلِ معًا قبرًا نائيًا. عاملُ النظافة يأتي متأخرًا مصحوبًا بنباحِ كلاب جائعة وشتائم ليليةٍ لا تُفارِق مَسْمَعي. بائعُ كتبٍ اختفى من على الرَّصيف ورحتُ في كلِّ مرَّةٍ استحضِرهُ بقوة الخيال وأقتني من عناوينه المغبرةِ أطوَلها. مؤذِّنُ الحي الذي يجعلني أقطعُ المسافة بين الحلمِ واليقظةِ حافيًا زارعًا لي في كلِّ خطوةٍ أذُنًا ومكبِّرَ صوت. ستَّةُ فتيةٍ سابعهُم شاعر أغضُّ الطرفَ لأن لا يكون أنا، وتختلفُ الرِّوايات مَن لاعبُ كرة القدم فيهم؟ من صائدُ الفتيات؟ من عازف الكمان؟ من مؤلِّف النُّكت؟ من جامعُ الكتب؟ من صانعُ الأفلام القصيرة؟ من القائلُ: كم لبثتُ هنا وقد هُيِّئَ لهم أنِّي كنتُ من الأموات في المشهدِ الأخير. القصيدةُ أقصرُ مسافة إلى قبرِ من أسمِّيه عكسَ أشياء كثيرة: أنا! هكذا أسمِّي الأشياء بأسماءٍ طويلة كأرجلِ عارضات الأزياء. أخافُ أن أرى أجساد أصدقائي مشوهةً هنا، مفقوءةَ الأعين، مبتورةَ الأعضاء، مفقودةً ومرمية في شوارع خالية، أخافُ أن يحدث ذلك بينما أنامُ في حضن جملةٍ طويلة لم أعتبرها وصف شيءٍ ما، كالموت مثلًا أو القتل أو أي اسم جميلٍ قليل الأحرفِ، ثلاثيًا أنيقًا كجثة، كنعش، كقبر... أعودُ إلى الحياةِ بلا سبب وجيه. كأسُ المارتيني السيِّئ والسجائرُ الرَّديئة والأفكار المتورِّمة لم تعد تشغل بالي كثيرًا. زوجتي في المطبخ هذا الصباح أجمل من كلِّ القصائد والعناوين والمسافات القادمة وأنا بعد الصَّلب، لم أعد شاعرًا يتوسَّطُ سحابة دُخَّان منشغلًا - عن الحياة - بالبحثِ عن سببٍ وجيه للموت في الثالثة والثلاثين.