يحملنا خالد بن صالح، في مجموعته الشعرية الثانية إلى مسافة قدرت ب "مائة وعشرون متر عن البيت" ضمن منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف إلى حوالي 33 قصيدة مقسمة إلى ثلاث أبواب هي كالتالي: حديث أموات، هواء ثمل، الاعترافات الأخيرة لعائد من القبر، لندخلها سالمين غانمين بقصيدة النثر التي سجل من خلالها خالد بن صالح وجوده الشعري ضمن المشهد الثقافي الجديد. بعد مجموعته الأولى "سعال ملائكة متعبين" سنة 2010 يطل علينا مرة ثانية خالد بن صالح مصرا على الشعر وعلى الوفاء ذاته للقصيدة المفتوحة على أفق يختلف عن النظم والتوزيع الإيقاعي للقصيدة وإنما يخلق لشعره إيقاعا مغايرا يختلف تماما عن المنحى الشعري المتداول في الجزائر وبين الجيل الجديد، بحيث لا يمكنك أن تهتدي إلى جغرافية شعر خالد بن صالح على الإطلاق ولا تقودك الدلالات اللفظية إلى إي إيحاء لتؤكد أنه جزائري مثلا، هناك منطقة ثالثة في شعره منطقة سريالية وربما هذا ما يفسر اختيار لوحة الغلاف للفنان رينيه ماغريت، للعلم أن الشاعر فنان تشكيلي بأساس. رائحة الموت.. رائحة الديوان: فاتحة الديوان مقولة قاسية لخوسيه إيميليو باتشيكو مفادها: "في كل مرة تبدأ فيها بكتابة قصيدة تستحضر الموتى/ يرونك تكتب / يساعدونك"، ثم تبدأ بقراءة الباب الأول المعنون ب "حديث الأموات" الذي يحملك وبقوة إلى تضاريس قاسية عن الفقد والموت، حيث يقول: "مضوا / وأنا الغائب معهم / مضوا جميعا يتخبطون في البانيو/" وكذا في قصيدة أخرى: "القصيدة أقصر مسافة من قبر من أسمِّيه عكس الأشياء / أنا.." كما نجد أيضا في نهاية هذه القصيدة المعنونة ب: "أسماء طويلة كأرجل عارضات الأزياء" ما يلي: "لم أعد شاعرا يتوسط سحابة دخان / منشغلا عن الحياة / بالبحث عن سبب وجيه للموت في الثالثة والثلاثين".. وهنا ندرك بشكل كامل أن الديوان يعكس تجربة ذاتية أو على الأقل رؤية ذاتية مطلقة، لأن الشعر في الأساس هو تلك التجربة الخاصة، الشاعر في الثالثة والثلاثين وسؤال الموت يتكرر بحدة في كامل حنايا القصيد، وهو دليل ما على الفقد والفقدان، لاشك أن ميلاد هذا الديوان كان بإيعاز قدر ما، هذا القدر أخذ من خالد بن صالح شخصا عزيزا وغال. القاموس المشرقي الأرستقراطي: الأشياء في شعر خالد لها وقع مختلف فالقاموس الذي ينحت منه الصورة المكانية غريب نوعا ما عن القاموس الجزائري، فنجده يقول "إنما رميت عقب سيجارة في كاس المارتيني ولا أعرف ما الذي حدث بعدها". أو كان يذكر زجاجة الفودكا، أو الهروين، مايسترو، الأركسترا، الرقص الكلاسيكي والكاماسوترا، همسات ميلان فارمر، الخمور الروسية والدخان الأمريكي.. كل هذا يجعلنا أمام مسميات غريبة إلى حد ما عن القاموس الجزائري، توحي عن رقة ما وجو من ستينات القرن الماضي، ولكنها تساعد الرمزية والإيقاع الحزين الذي يريد نقلنا إليه الشاعر. الثورة .. والموت: بعد نحو مائة وعشرون مترا عن البيت هناك ثورة، وهناك موت، هناك البوعزيزي "تضيء ظلمة الدرج الخشبي الضيق حاشية جورنال قديم كتب عليها / فاقتلوني واحرقوني / بعظامي الفانيات / ثم مروا برفاتي / في القبور الدارسات". الشاعر في هذا الديوان يعرج غلى الثورة بل منذ البداية هناك رائحة للثورة لأن الثورة في النهاية هي الموت والحقيقية التي لا نريد أن نذكرها أننا أمام الموت وليس الثورة، ما يحدث في ليبيا موت وكذلك في سوريا وفي كل المسميات التي نسميها مكابرة ثورة. ولكن يقول لنا سر العنوان في قصيدة غربة التي تقول: "على بعد 120 متر من الباب الخلفي للبيت / باب آخر.. أخضر / ممرات تضيق بالناس / أطفال فضوليون / قطط عطشى / وذباب عنيد / يتبع النعش". وعليه الموت هو العنوان الكبير لهذا الديوان الذي يتنفس الفقد والوجع والضياع ولكن مع كل هذا الوجع الكبير الذي اعتلى عمر الثالثة والثلاثين هناك قصائد ممتعة جدا ورائقة كتلك المعنونة "كأن هدهد تمتم شيئا عن ساقها" والتي يقول مطلعها: تستفيق من حلمك نصف ثمل تلصق ذكرياتك على السقف بالترتيب من الأقرب إلى الأبعد وتنشد لا شجرة تحمل في عروقها تراب الأرض ولا جسدا خاليا من روح الرب بإمكانهما صناعة قبر أنيق تتذكر حكمة أن يكون قلبك علبة كارتون. قلب خالد بن صالح ليس علبة كارتون ولكن قصيدة مطلقة تصلح لكل المتعبين على وجه هذه الأرض شرط أن يبللهم السعال