تلقيت هذه الدعوة الكريمة لتقديم كلمة أولى في هذا الجمع الموقر، ونحن في غمرة الانتخابات الرئاسية التي توجت بالاختيار الشعبي الحرّ والواسع للسيد عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية، بعد منافسة شفافة وديمقراطية جرت في جو من الأمن والاستقرار، وهو ما سجّله الملاحظون من مختلف الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية، وما عبر عنه قادة العالم في رسائل التهنئة لرئيس الجمهورية. وقد شهدنا ذلك عن قرب حيث أشاد العديد من رؤساء الدول وكبار المسئولين الذين شاركوا في بداية هذا الشهر في فوروم الاستثمار في إفريقيا بنيجيريا بما تنعم به الجزائر من أمن واستقرار وتوسيع لقاعدة الديمقراطية في مسعى توافقي، كما أعربوا عن تقديرهم لدور الجزائر ومواقفها البناءة من القضايا المطروحة على الساحات الجهوية والدولية، كما أعربوا عن تقديرهم لشخصية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وحكمته وحسن تدبيره وما يتميّز به من خبرة بشؤون العالم وشجونه، بل اعتبره أحد المشاركين في الفوروم وهو السيد ز لولا دا سيلفا ز، الرئيس السابق للبرازيل أحد كبار رجال الدولة في العالم المعاصر. نعرف ونحن في هذا المقر الجميل أننا ندخل مدرسة الدبلوماسية الجزائرية ونستلهم من مسار وجهود الكثير ممن خدموا الجزائر المكافحة بإخلاص وكفاءة أثناء الثورة وبعد التحرير وأسمعوا صوتها وكسبوا تعاطف وتأييد الكثير من البلدان ومن أعلى المنابر الدولية. لا بد عند الحديث عن رواد الدبلوماسية الجزائرية أن نذكّر بأن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان أحد الفاعلين الكبار في التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية للجزائر بعد التحرير والساهر عليها منذ ,1999 وذلك انطلاقا من التجربة التاريخية للشعب الجزائري وقيم ومبادئ ثورة نوفمبر 1954 التي كان من قياداتها البارزة، فقد ثمّن بذكاء وفعالية تلك المبادئ والقيم القائمة على حق كل الشعوب في الحرية والكرامة الإنسانية والعدل والتقدم والتصدي لكل أشكال الميز - أبارتايد - على أساس الجنس أو اللون أو الدين واحترام سيادة الدول والشعوب مهما كان حجمها وموقعها في خريطة العالم والدعوة لتضامن الشعوب التواقة للأمن وتحقيق التنمية والتقدم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بمنأى عن التكتلات والأحلاف العسكرية. هذه بعض التوجهات والمطالب التي قامت عليها حركة عدم الانحياز التي جمعت ثلاثة أرباع البشرية منذ الانطلاقة الكبيرة لحركة التحرير الوطني في خمسينيات القرن الماضي ووجدت في الثورة الجزائرية تجربة نموذجية للتحرر بالاعتماد أساسا على الشعب ورفض وصاية أو احتواء القوى الكبرى في العالم. وقد تمكنت الحركة فيما نسميه عصرها الذهبي من تحقيق عدة مكاسب وقرارات صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة، نذكر منها - إدانة كل أشكال الكولونيالية وإقرار حق تقرير المصير لكل الشعوب سنة .1960 - حق الدول في السيادة الدائمة على مواردها الطبيعية سنة .1962 - اقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل الدول سنة .1966 - اقرار النظام الاقتصادي الدولي الجديد الذي تقدمت به الجزائر وصادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة .1974 - إدانة التمييز العنصري واعتبار الايديولوجية الصهيونية أحد أشكال العنصرية والتمييز العرقي سنة .1975 المطالبة بتفعيل مجموعة كبيرة من القرارات الخاصة بالقضية الفلسطينية الخاصة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن من القرار 194 الخاص بعودة المهجرين بالقوة إلى وطنهم إلى القرارين 242 و 338 لسنة 1967 و1973 بعد العدوان الاسرائيلي على ما يسمى بلدان الطوق أو الجوار وكذلك القرار 425 الخاص بانسحاب اسرائيل من جنوب لبنان، وكلها تطالب بتطبيق ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الذي يمنع الاستيلاء على أراضي الغير عن طريق الحرب أو العدوان The inadmissibility of acquision of territory by war يعود ميلاد حركة عدم الانحياز كما تعلمون إلى التحولات التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية على مجمل الساحة الدولية فالأحداث الكبرى لها تاريخ وتقع على خريطة جغرافية ولفهمها من المفيد وضعها في سياقها الجغرافي التاريخي Géo historique الذي يمتد على الأقل إلى القرن الماضي الذي قدم إ. هوبزباون أهم ظواهره في دراسته عن عصر النهايات القصوى The age of extremes على النحو التالي: - في القرن العشرين حتى 1991 خسرت الإنسانية 75 مليون قتيل من الضحايا المدنيين والعسكريين في حربين عالميتين، كل منهما أكثر شراسة وسفكا للدماء من الأخرى، يقول الكاتب أنه بين 1914 و1991 قتلت الحروب والنزاعات الداخلية 300 مليون ضحية. - في القرن العشرين صّعدت الكولونيالية من جبروتها ونسيت أروبا مبادئها وإعلاناتها الإنسانية فولدت الفاشية والنازية وشيوعيّة الكولاك بدل اشتراكية العدل والتضامن، وأعادت تسْمية السود باسم الملّونين. - في النصف الثاني من القرن العشرين تزايدت الحروب الأهلية وانتهت الحرب الباردة بسلام مسلح وراجتْ تجارة السلاح ومحاربة كسادها بخلق بؤر التوتر. - بالمقابل وعلى الرغم من كل ذلك عرفت الإنسانية في القرن العشرين الكثير من الخير : - بعد عدة ألفيات تضاعف سكان الأرض أربع مرات خلال مائة عام فقط، بعد أن بقي خلال مئات السنين أقلّ من مليار واحد أو مليار ونصف حتى 1902 . - للتزايد العددي أسباب كثيرة منها تقدم الطب والصيدلة، وانتشار اللقاحات والمضادات الحيوية؛ وخدمات النظافة والإضاءة، ووسائل التوعية والتربية، في المدارس ووسائط الإعلام. - في نهاية القرن العشرين زاد متوسط العمر في البلدان المتقدمة بحوالي 60 وانتقل من 47 سنة في بداية القرن إلى 76 سنة في آخر السبعينات، وفي البلدان النامية تضاعف متوسط الحياة وتجاوز في الجزائر 75 سنة خلال العشرية الماضية كما تضاعف دخل الفرد الجزائري مرتين. - زادت ثروة العالم أكثر من أربع مرات عما كانت عليه في ثلاثينيات القرن الماضي، وزاد الاستهلاك بدرجة كبيرة في أمريكا واليابان وأروبا، وبقي في حدود الكفاف أو أقل (في بعض بلدان) إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والكراييب، بأقل من دولار واحد في اليوم. - تعوْلم العالم أولا عن طريق حربين عالميتين؛ ثم عن طريق المؤسسات الدولية التي أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية، وأصبح لتلك الهيئات والمجامع مرجعية ولها رأي و قرار في السياسات الداخلية لكل بلدان العالم وحتى في علاقاتها البينية . من الواضح أن الجزائر التي تحررت من ظلام الكولونيالية بتضحيات كبيرة قد دعمت حركة عدم الانحياز عن قناعة وبفعالية، وسعت لأن تكون حركة تعمل من أجل السلم والتضامن بين دولها وشعوبها، سواء أثناء فترة الحرب الباردة أو بعد ظهور الأحادية القطبية وهي تقبل الحوار مع أي طرف في ظل الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية كما دعت إلى التعاون جنوب جنوب ومع كل الأطراف الأخرى في العالم. وفضلا عن الشعور بالفخر والاحترام الذي نكنّه لهذه الحركة التاريخية التي أرسى أسسها حكماء النصف الثاني من القرن الماضي، فإنّ حركة تحرير الشعوب التي كانت ترزح تحت ظلام وظلم الكولونيالية تمثل في الحقيقة النبراس الذي أضاء طريق الخلاص لكثير من شعوب المعمورة. هذا الشعاع الذي ما لبث أن تحول بفضل تضحيات جسام إلى إرادة جماعية لتحقيق الحرية والعدالة، ونأى بنفسه منذ الوهلة الأولى عن التحالفات الظرفية ومجموعات الاستقطاب الإيديولوجي التي أصبحت فيما بعد قوى ضاغطة وأسفرت عن نتائج سلبية على تطور البشرية، حيث لا تزال حدة صراعات الحرب الباردة ومضاعفاتها على الانسان والطبيعة لم تحظ بما تستحقه من دراسة عميقة لأسبابها وتأثيرها على مجمل العلاقات الدولية، ومن الأمثلة على أن نيران الحرب الباردة لا تزال تحت الرماد، الحرب الاهلية في البلقان التي أدت إلى تقسيم يوغسلافيا التي كانت رائدة في حركة عدم الانحياز وانشطار السودان والصراع المأساوي بالوكالة في سوريا والمواجهات الراهنة في أوكرانيا وتعني: قف هنا جدار الأمن والمصالح. ارتبطت الجزائر في مسارها الطويل أثناء فترة كفاح التحرير وبعد استعادة السيادة الوطنية بمبادئ عدم الانحياز، ولم تقبل الدخول تحت مظلة القوى الكبرى التي دخلت عقب الحرب العالمية الثانية في سباق محموم نحو التسلح وأوصلت العالم إلى شفى حرب نووية لا تبقى ولا تذر. وإذا كان قادة هذه الحركة الرائدة وملهموها قد رحلوا عن هذه الدنيا بعدما رفعوا عاليا مشعل السلام بين الشعوب والأمم ومختلف الأعراق والعقائد، فإنّ المبادئ التي دافعوا عنها تشكل بحق تراثا متجددا لثقافة السلم والمساواة بين الأمم. لقد لاقت الجزائر كل مشاعر التعاطف والتضامن والدعم من قبل دول حركة عدم الانحياز وعملت منذ مؤتمر باندونغ 1955 إلى غاية انضمامها كعضو ناشط سنة 1961 ثم كعضو دائم في 1962 على احترام مبادئ عدم الانحياز التي جعلت من ثورتها نموذجا يحتذى به في الحكمة والتروي وأيقونة العمل التحرري التي ما لبثت أن سطع نورها على كل البلدان التي كانت ترزح تحت نير الكولونيالية المستبدة. إنّ التاريخ يحمل كما أشرت الكثير من الدروس والعبر المسجلة على الجغرافيا الواسعة للعالم الثالث، ولذلك يمكن اعتبار انعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز بالجزائر العاصمة من 5 إلى 9 سبتمبر 1973 حدثا سياسيا كبيرا ونجاحا باهرا للحركة ومناسبة لتعزيز الأواصر بين أعضاء الحركة وفرصة لتسوية الصراعات الظاهرة و الخفية التي كانت تمر بها العلاقات بين بعض الدول الأعضاء، وقد نجحت الدبلوماسية الجزائرية في إطفاء توترات في العلاقات بين بعض أعضائها كانت على وشك الانفجار. تتمسك الشعوب والأمم المحبة للسلام اليوم أكثر من أي وقت مضى بالأمن والسلام وتسعى للتكيف مع المستجدات لكي تستجيب لمتطلبات عصرنا الراهن وتعزيز العمل المشترك لإعادة بناء العلاقات الدولية بما يخدم مصالح كل سكان المعمورة من دون اقصاء. جمعت أرضية عدم الانحياز الخصبة والمثمرة كل الدول التي اختارت بحنكة مواقف شجاعة وانخرطت في صف الإجماع الاستراتيجي الذي يضمن السلم وحق استقلال الشعوب، حيث ساهمت هذه الروح في إعادة التوازن للعلاقات مع القوى التي أنهكتها الحرب الباردة وسمحت لدول عدم الانحياز بفضل بيان باندونغ التاريخي أن تكون قوة سياسية قادرة على التفاوض بشأن قضايا سياسية استراتيجية على غرار مسار تصفية الاستعمار والحق في التنمية. واليوم، مثلما كان عليه الحال بالأمس، تدفعنا عملية إعادة تشكيل الخارطة السياسية الجارية إلى التفكير المشترك حول مستقبل السلم والأمن في العالم وإلى التحرك وفقا لمبادئ الحق والعدل والحرية المتجذرة في القانون الدولي وقيم العدالة وحقوق الانسان وذلك للتخفيف من حدة الآثار الوخيمة الناجمة عن العولمة المتوحشة على الاقتصاديات الهشة والبيئة والموارد الحيوية غير المتجددة. لقد عانت البشرية من عالم ثنائي القطبية أدى إلى حرب باردة وإيديولوجية أعقبتها أحادية قطبية أدت إلى هيمنة واحتكار إدارة شؤون العالم، لتبرز حالة أخرى من سياسة الهيمنة القائمة على التدخل الشامل الذي يتم تبريره تارة زبحماية حقوق الانسان والأقلياتز وتارة أخرى زبالبحث عن أسلحة الدمار الشاملس، وهي السياسة التي تقصي إرادة الشعوب وتضعف نجاعة المؤسسات الدولية المكلفة بقضايا السلم والأمن في العالم. ■ يتبع