بدأت رحلتي مع القراءة منذ أكثر من ربع قرن، مع روايات المكتبة الخضراء التى كانت أمي تقصها علينا أنا وأختى في طفولتنا المبكرة جدا والتى أذكر منها حكايات عقلة الإصبع والبجعات المتوحشات وغيرها من الحكايات الأسطورية الممتعة، ثم وأنا فى حوالي السادسة من عمري. عندما كنت فى الصف الأول الإبتدائى إنتقلت مع أهلى إلى السعودية، كنت وقتها أعانى من فراق أصدقاء الطفولة المبكرة ومن العجز عن التأقلم مع هذا المجتمع الجديد، حاولت فى البداية أن أجد السلوى فى متابعة التلفاز ولكنها كانت أملا بعيد المنال، فقد كنا فى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، أي ما قبل عصر الأطباق الفضائية، وكانت برامج القناتين السعوديتين اليتيمتين غاية فى الملل، بخلاف ساعة فى الصباح وأخرى بعد الظهيرة مخصصتين للأطفال، كان نصفها الأول كارتون متنوع والآخر حلقة مدبلجة، فكنت أقضي اليوم بأكمله فى إنتظار الحلقة الجديدة من جزيرة الكنز أو عدنان ولينا أو فارس الفتى الشجاع أو سانشيرو أو كعبول أو سالي أو حكايات عالمية أو الرجل الحديدي، وكانت هذه هي متعتى الوحيدة فى الحياة فى تلك الفترة، وسرعان ما لاحظ أبى مشكلة الفراغ القاتل التي أعاني منها، فبدأ يجلب لي مجلات الأطفال ?ماجد وباسم وميكي- على أمل أن تسليني في وحدتي، وقد كان، وتعلقت منها بمجلة ماجد بالذات بأبطالها ذكية الذكية وكسلان جدا والنقيب خلفان والمساعد فهمان وشمسة ودانة وأبو الظرفاء وفضولي، ثم بمجلة ميكي التى كان بطلي المفضل فيها هو بطوط ورفاقه فى مدينة البط، إلا أننى كنت ألتهم الأعداد الأسبوعية لتلك المجلات إلتهاما فى وقت وجيز وأقع فريسة للملل والفراغ ثانية، فبدأت في إستكشاف الجريدة اليومية التي يقرأها أبي ?جريدة الأهرام المصرية- وأدمنت قراءة صفحة الحوادث تحديدا ?وأنا فى السابعة من عمري!- ولا أدري أكنت بدعا بين الأطفال فى هذا الإهتمام الغريب أم لا، لكنني أحمد الله على عدم تطور الموضوع لأبعاد أكثر إجرامية! كانت المحطة التالية فى رحلتي مع القراءة فى أجازة الصف الثالث الإبتدائي، كان الفراغ يفترسني كالعادة ووالدي يحاول ملئه لي بشتى الطرق ?كان منها إجباري أنا وأختى على إستذكار مناهج السنة الدراسية المنصرمة في إجراء تعسفي لم ننسه حتى الآن!- حتى جاءت الهدية الثمينة من أحد أصدقاء والدي العائدين من مصر والذي يعرف شغفى بالقراءة، فأتى لي بخمسة أعداد من سلسلة ملف المستقبل لمؤلفها الدكتور نبيل فاروق وبطلها المقدم فى المخابرات العلمية نور الدين محمود، فتنتنى هذه السلسلة وفتحت لي آفاقا أرحب للخيال والمعرفة والمتعة، وصرت متلهفا على قراءة قديمها وجديدها ونظائرها من السلاسل التي كنت أقرأ عناوينها فى آخر كل كتاب وأحلم بإستكشافها ، وهو ما كان أمرا عسيرا في السعودية نظرا لعدم توفرها وإرتفاع سعرها مقارنة بمصروفى على الأقل- إلى أن سقطت عليّ غنيمة من السماء فى هيئة جوال مليء بأعداد من سلاسل ملف المستقبل ورجل المستحيل والمكتب رقم 19 ?للمؤلف شريف شوقي والتى لم أحبها كثيرا- أهداه لي إبن أحد أصدقاء والدي كان يكبرنى بحوالى عشرة أعوام وضاقت مكتبته بها، فكانت أجمل هدية تلقيتها في عمري الصغير، وأخذت أعب منها كظمئان عثر على بئر ماء عذب أجاج فى الصحراء، حتى خشي والدي أن آتي عليها فى فترة وجيزة وأعود إلى الملل والفراغ ثانية، فحكم علي بألا أقرأ أكثر من ثلاثة أعداد فى اليوم ?كنت أحيانا ما أصل إلى خمسة أعداد أو سبعة!- وصرت أحرص فى كل زيارة سنوية لمصربعد ذلك على شراء أكبر قدر من هذه السلاسل بسعرها الرخيص نسبيا -أضيف إليها كذلك ع X 2 وزووم وكوكتيل 2000 لنبيل فاروق فلاش لخالد الصفتي والفرقة الإنتحارية لمجدي صابر - لتكون ذخيرة تهّون علي أيام الغربة الطويلة. و لا أنسى تشجيع أبي لي على القراءة فى هذه الفترة الذى كان منه أن يجعلني أحكى له الروايات التي تعجبنى ?بالتفصيل الممل!- أثناء تمشياتنا الطويلة من وإلى المسجد البعيد نسبيا عن بيتنا، متظاهرا بالإهتمام الشديد والإندماج مع ما أحكيه، فى لفتة لم أدرك قيمتها إلاعندما كبرت. بدأت بعد ذلك التعرف على الأدب العالمي من خلال سلسلة روايات عالمية للناشئين ترجمة الأستاذ مختار السويفي ?كانت النسخة تباع بثمانين قرشا وقتها!- والتي أدخلتنى إلى العوالم الساحرة لتشارلز ديكنز وروبرت لويس ستفنسون وهربرت جورج ويلز وجول فيرن وشكسبير ومارك توين والأختين إميليي وشارلوت برونتى ?كانت جدتى رحمها الله تحبهما كثيرا وهى من شجعتني على القراءة لهما- وغيرهم الكثير. جاءت العودة إلى مصر والإستقرار بها مع بداية مرحلة الدراسة الإعدادية، بداية لمحطة جديدة أرحب في عالم القراءة، بدأت بفرشة الكتب المستعملة القابعة بركن ميدان سانت فاطيما التى عرفنى عليها أبى، والتي أطلقت عليها إسم «الكنز» نظرا لما كانت تذخر به من روايات هركيول بوارو وأرسين لوبين وشيرلوك هولمز والمغامرين الخمسة والشياطين التلاثة العشر بالإضافة بالطبع لرفاق الطفولة الأولى أدهم صبري ونور الدين محمود، بصاحبها العجوز المتجهم قليل الكلام الذي منحنى أول فرصة لممارسة التجارة، حيث كنت أبيع له كتبي التي إستغنيت عنها وأشتري غيرها أولا بأول، والذى لم أدرك كم أحببته إلا عندما غيبه الموت وحل محله إبنه الذى أقلع عن تجارة الكتب المستعملة وإتجه إلى الكتب الجديدة و«المضروبة»، إلا أن «الكنز» كان قد فقد روحه بالنسبة لي فلم أقدر على التعامل معه من بعده. و لا أنسى متعة مغامرة أول مشوار بالمواصلات العامة وحيدا ?في الحادية عشرة من عمري تقريبا- للبحث عن مقر المؤسسة العربية الحديثة الناشرة لسلاسل الدكتور نبيل فاروق وخالد الصفتى رحم الله صاحبها الأستاذ حمدي مصطفى وجزاه عن ما قدمه لجيلنا خير الجزاء- لأظفرمن هذه المغامرة بالأعداد الناقصة عندى من كل السلاسل المحببة لي، بالإضافة لإكتشاف سلسلة كتابي المترجم الرائع الأستاذ حلمى مراد ?رحمه الله- التى عرفتني على أدب فيكتور هوجو وألكسندر دوما وستيفن زفايج وألبرتو مورافيا وفولتير وغيرهم من أهم الكتاب العالميين. ثم كانت أول زيارة لي فى رحلة مع المدرسة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1993 لأشعرأننى فى مغارة علي بابا العامرة بالذهب والياقوت والمرجان، فصرت أتنقل بين السرايات التي تضم إصدارات أهم الناشرين في الوطن العربي والعالم ذاهلا كالمفتون غير راغب فى مغادرة هذه المغارة الساحرة أبدا! كان من أهم ما خرجت به من هذه الزيارة ?التى صارت طقسا سنويا مقدسا لم ينقطع أبدا حتى اليوم- هو العدد الأول من سلسلة جديدة من إصدار المؤسسة العربية الحديثة لمؤلف شاب وقتها إسمه د.أحمد خالد توفيق هى سلسلة ماوراء الطبيعة، والتي كانت ولازالت أحب ما قرأت إلى قلبي ببطلها الغريب الأطوار رفعت إسماعيل وأساطيره التى تخلب الألباب، توالت بعدها إصدارات د.أحمد -التى تابعتها كلها بنفس الشغف- من فانتازيا لسافاري لروايات عالمية للجيب، وهذه الأخيرة بترجمتها وإختياراتها المميزة فتحت لي بابا جديدا على الأدب العالمي دخلت منه عوالم ستيفن كينج وجون جريشام وأوسكار وايلد وجورج أورويل وراي برادبورى وكثيرين غيرهم. كانت هذه المرحلة أيضا هى بداية تعلقي بحبى الآخر الذى نازع الكتب فى نفسى وهو السينما، وصارت الأفلام والكتب معينا لا ينضب لخيالي الخصب الذي كان يترجمه عقلي لأحلام يقظة لا تنتهى ?لا تزال حتى اليوم مهربى من قسوة الحياة الواقعية وسخفها!- مليئة بالمغامرات الأسطورية وقصص الحب والحروب الملحمية، فكنت أغلق على نفسى باب غرفتي وأندمج فى تمثيل مغامراتي حتى يفصلني منها طرقات «عمو صلاح» -جارنا فى الطابق السفلي- على باب شقتنا متوسلا كي يتمكن من النوم الذى أطارته من عينه قفزاتى على سقف غرفته! ثم جاءت مرحلة إستكشافي لمكتبة أبي بما فيها من كتب سياسية وتاريخية ودينية، لتفتح لى بابا على عالم الكبار المعقد، حيث الحقيقة الغائبة بين وجهة النظر وعكسها من كتاب لآخر، فكنت أقرأ كتابا لمصطفى أمين عن عبد الناصر لأجده طاغية ظالما غشيما مستبدا، وأقرأ عنه فى كتاب لهيكل فأجده بطلا ثائرا متنورا نصيرا للفقراء، لأتعلم الدرس الأهم فى رحلتى مع القراءة وهو ألا أصدق كل ما أقرأ، وأن أقرأ بقلبي وعقلي وأقلب كل معلومة أتلقاها من كل الجوانب، وأزنها بميزان حساس حتى أكون قناعتى الخاصة بعد القراءة من كل المصادر ومعرفة الآراء المختلفة وخلفيات أصحابها، الخلاصة هي أن القراءة علمتنى المنطق وكيفية التفكيرالعقلانى فى كل الأمور، وهو فى رأيي أكثر ما يحتاجه الإنسان فى رحلة الحياة نفسها. من مكتبة أبي أيضا دخلت عالم نجيب محفوظ ?كانت أول قراءاتي لى مجموعة تحت المظلة وأنا فى الإبتدائية ولم أفهم منها شيئا تقريبا لكن أسرني أسلوبه من ساعتها!- ويوسف السباعي ويحيى حقى وتوفيق الحكيم ومحمد عبد الحليم عبد الله والطيب صالح وباقى هذا الجيل العظيم من فطاحل الكتاب. تلت ذلك مرحلة الشعر الذى فتنت به، وتعلقت أكثر ما تعلقت بالمتنبي وشوقي وصلاح جاهين ونزار قباني وبيرم التونسي وأحمد مطر وأحمد فؤاد نجم وأمل دنقل. ثم كانت مرحلة طغت فيها قراءة الصحف والمجلات على إهتماماتى في محاولة ?عويصة!- لفهم ما يحدث فى العالم من حولي، وكانت أبرز معالم هذه المرحلة بالنسبة لي جريدة الدستور التى كان يرأس تحريرها إبراهيم عيسى، والتى كانت تتميز بسقف معارضتها العالى للنظام وكوكبة الكتاب الموهوبين الذين برزوا على صفحاتها، سواء الشباب منهم كعيسى نفسه وبلال فضل ونوارة نجم وعمر طاهر، أو المخضرمين كأسامة أنور عكاشة وأحمد فؤاد نجم وصافيناز كاظم ومحمد عبد القدوس. و كذلك مجلة الشباب برئيس تحريرها الرائع الأستاذ عبد الوهاب مطاوع ?رحمه الله- وكتابها الكبار أمثال الأستاذ مطاوع نفسه ومصطفى محمود وأنيس منصور وصلاح منتصر ونبيل فاروق وإسعاد يونس ومحمود السعدني، وكان من الأسباب الإضافية لتعلقى كمراهق بها بوسترات نجوم السينما والموسيقى المرفقة بكل عدد والتى كانت تغطي جدران غرفتى، كان أكثر ما يميز بوسترات النساء منهن حرص الأستاذ عبد الوهاب مطاوع على تظليل ما ظهر من أذرعهن أو نحورهن أو سيقانهن فيما يشبه الفوتوشوب البدائي ليتحول بقدرة قادرعلى يديه الديكولتيه المفتوح إلى هاي كول والكت إلى كم طويل والميني جوب إلى ماكسي فى مهمة مقدسة كنت مقتنعا أن الأستاذ مطاوع يقوم بها بنفسه! كان من توابع هذه المرحلة أن ولّدت لدّي حلم الإشتغال بالصحافة -مدعوما بتشجيع من معلمّى اللغة العربية الذين كانوا يرون في كتاباتى لمواضيع التعبيرالتي كنت أحصل فيها على الدرجة النهائية بذرة تستحق الصقل والرعاية- والذي دخلت بسببه القسم الأدبي فى الثانوية العامة بخلاف رغبة والدَيّ الأطباء ?رغبة أمي تحديدا فأبي طالما كان ديموقراطيا في تربيته لنا- إلا أنهما نجحا فى إقناعي لحظة إتخاذ قرار إختيار الدراسة الجامعية بأن طريق الصحافة والكتابة مستقبله غامض ولا يفتح بيتا، لأستسلم فى النهاية وأتخلى عن هذا الحلم وأتجه لدراسة إدارة الأعمال. و هكذا ظلت علاقتى بالقراءة على الدوام ، كعاشق لها ومتزود بها فى رحلتي فى الحياة مستعينا بها على وعثائها، وملتمسا فيها الحكمة والمعرفة والمتعة، ولا تزال الرحلة مستمرة ما ظل فى العمر بقية.