عرفت الدكتور سي محمد سعيدي، رحمة الله عليه، من بعيد و سمعت عنه وهو ببسكرة محافظا لجبهة التحرير الوطني، كان كثير النشاط الثقافي و الفكري والأدبي و النضالي و الاجتماعي والسياسي، وعرفته عن قرب في مناسبتين، الأولى لما كان محافظا للحزب بعد أن غادر بسكرة إلى قسنطينة، حيث زرته أنا و السيد ذياب العامري، باسم منظمة الشبيبة الجزائرية زيارة ودية، فاستقبلنا بتواضع مميز وتحادثت معه، فكان يجيبني و الابتسامة على محياه و وجهه يشي بشيء من التحفظ ،حتى خالني من رجال الأمن، يتجسس عليه كما اخبرني من بعد صديقي ذياب العامري. كانت أسئلتي عامة في الثقافة و الفكر و عن جمعية العلماء المسلمين، حيث عجل صاحبي بتقديمي بصفتي أحد أفراد عائلة الشيخ الطيب بلحاج صالح المعروف بسالطيب العقبيس رائد الإصلاح في الجزائر وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. أما المناسبة الثانية فكانت منذ منذ أكثر من عقد من الزمن في بيت السيد العياشي دعدوعة، حيث دعاني إلى السهرة، ورغم الخلاف الفكري و تباين قناعاتنا الفكرية، لكن النقاش كان يتقدم ويتعمق و يطول في أدب رفيع و أجواء من الاحترام لا يعرفها إلا الكبار. الدكتور سعيدي شديد التمسك بعلمانيته و يساري معروف، بل هنالك من يراه يومها شيوعيا، لم تكن تهمني تلك التصنيفات بقدر ما كان يهمني أن الدكتور سعيدي كان واحدا من النخبة التي اشتغلت على مشروع زالجزائر 2005س رفقة الدكتور جيلالي اليابس و بوخبزة وأظن بوسبسي وربما لست متأكدا من بعيد رضا مالك و مصطفى الأشرف، وكان السؤال الذي افتتحت به النقاش والذي كان يؤرقني هو هل أجد عندكم سيد سعيدي نسخة من المشروع وكنت أعلم أن إثني عشر نسخة فقط وزعت يومذاك على أسماء معروفة، منهم الرئيس علي كافي، فأخبرته بذلك وكانت المعلومة جد متحفظ عليها، حبيسة دائرة ضيقة، فنظر إلي حائرا قليل التردد و استرسل مهتما يحدثني بمعلومات ليست عميقة كنت اعرفها، لكننا تجادلنا مطولا حول طبيعة المشروع الذي حصلت على كثير من فقراته ولم أتحصل عليه نصا كاملا إلى الآن، على أمل أن أجده، لأنه عمل نخبوي كان و لا زال له أثر هام في مسار الجزائر ، رغم ما جاء بعده من مشروع زالجزائر2010س مصححا بعد اغتيال الدكتور جيلالي اليابس و من معه ، و لعل العمل كان يحضر ما بين الكواليس وأروقة الدولة و مركز الدراسات الاستراتيجية الشاملة يومذاك، مع العلم أن الدكتور سعيدي كان مدير ديوان رئيس الدولة السيد علي كافي. حدثني سي سعيدي باهتمام كبير و عرج بنا النقاش الممتع والراقي إلى مسائل عديدة، سألني ماذا أفعل ببسكرة و لماذا أنا باق هنا ولست في العاصمة و تأسف كيف أن النخبة الجزائرية على هامش المفاصل الحيوية للدولة، ثم تجاذبنا أطراف الحديث مطولا و سألته عن إقامته بليبيا سفيرا، سألته إن أمكن أن أحد عنده كتب الصادق النيهوم و كانت قراءة كثبه نادرة أو منعدمة بل كان مجهولا عند القارىء الجزائري إلى أن جاء الانترنيت، فسألني الدكتور سعيدي إن كنت أقرا للنيهوم متعجبا، فقلت له نعم لدي كتابه زإسلام ضد إسلامس مصورا و بعض مقالاته، فأخبرني بأنه تعرف عليه شخصيا في ليبيا و هو سفير، ثم سألته عن بعض المفكرين الليبيين، و كان يريد أن نواصل السهرة غير أن الوقت كان متأخرا - الثانية ليلا- فعليه أن يرتاح و له في الغد مشوار زيارات لقرى وأرياف بسكرة التي عرفها من قبل و اهتم بتراكيبها الإثنية و القبلية و تاريخها. قبل مغادرتي بيت المضيف و توديعه ألح أن يتكرر اللقاء بيننا مؤكدا علي أن أفكر في تغيير مقر سكني من بسكرة إلى الجزائر العاصمة، حيث توفر فرص التألق أكثر، مؤكدا بأن نخبنا تعيش في صمت ونسيان ولا تستفيد منها الجزائر. شتان بين مثقف متمكن راسخ القدم وإن اختلفت معه فكريا من جهة و سياسي جاهل غازل الثقافة و العلم وشم رائحتهما من بعيد فعد نفسه مثقفا رصينا.رحم الله الدكتور سعيدي و أسكنه جناته.